جريمة فى البلاط الخديوى ( ١ )
عندما يرتكب المواطن جريمة يطبق عليه القانون، أما الحاكم عندما يرتكب جريمة، فإن القانون يقف عاجزا أمامه.
من ذا الذي يجرؤ على محاكمة حاكم؟
في نوفمبر 1876 وقعت حادثة قتل إسماعيل باشا صديق الشهير بالمفتش، كان أخاً للخديوي إسماعيل في الرضاعة، ووزير ماليته، وقد تحول هذا الرجل من فلاح ساذج إلى رجل صاحب سلطة ونفوذ وثروة تفوق في مقدارها واختلاف مظاهرها أي أمير مصري آخر معاصر له، ووصف من قبل معاصريه بالخديوي الصغير، كما وصف بأنه الصدر الأعظم المصري، تقلد هذا الرجل عدة مناصب قبل توليه نظارة المالية.
فقد كان يعمل مفتشاً لإقليم بردين بالشرقية، ثم مفتشاً للسنطة بالغربية، ثم مفتشاً لعموم الدائرة السنية، فمفتشاً لأقاليم الوجه البحري، ثم مفتشًا لعموم أقاليم مصر، حتى أصدر الخديوي إسماعيل أمراً بتوليته نظارة المالية. في وقت كانت مصر تمر بأسوأ أزمة مالية. وهي الأزمة التي أرغمت الخديوي إسماعيل على قبول لجنة المراقبة من الدول الدائنة لمصر.
الواقعة تناولها ثلاثة من الكتاب. اثنان من المؤرخين هما أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديوي عباس فيما بعد، وعبد الرحمن الرافعي، المؤرخ المعروف لتاريخ أسرة محمد على وثالث هو ألبرت فأرمن، قنصل أمريكا لدي مصر في ذلك الوقت.
تناولها كل منهم بطريقته.
ولنترك المؤرخين يروون الحادث كل بطريقته.
يقول أحمد شفيق باشا بعد ديباجة عن حالة مصر في ذلك الوقت والديون المتراكمة على الحكومة بسبب إسراف الخديوي إسماعيل: أنه لما بلغ الضيق بإسماعيل ذروته لجأ إلى فرنسا وإنجلترا مبينا لهما أن سوء الحالة المالية يرجع إلى فداحة الفوائد، وأنه لا بد من تخفيضها، وتنظيم دفع الأقساط حتى تنتظم المالية المصرية وتصبح قادرة على السداد وقد استقر رأي الدولتين والدول الأخرى صاحبة المصالح الخاصة في ذلك على تكوين لجنة عرفت بلجنة التحقيق لفحص المالية المصرية.
فقبل إسماعيل بها على كره منه، وصدر مرسوم بتأليفها في 30 مارس 1878 وتألفت اللجنة براسة الفرنسي ديلسبس، والسير ريفرس ولسن ورياض باشا، وعضوية مندوبي صندوق الدين الأربعة، وكان للجنة حق استجواب أي موظف، تم استدعاء شريف باشا رئيس النظار للحضور، ولكنه رفض بإبائه المعروف واستقال، وعندما رفض شريف باشا الحضور، طلبت اللجنة حضور إسماعيل باشا صديق المعروف بالمفتش ناظر المالية.
فلما استدعي المفتش أمام لجنة التحقيق لاستجوابه خاف الخديوي أن يعلن المفتش ما بينهما من أسرار، فقرر الخديوي قتله، وذات يوم اصطحب الخديوي إسماعيل باشا المفتش معه إلى قصر الجزيرة بحجة التنزه، وذهب سمو الخديوي إلى جناح الحريم، ودخل المفتش إلى حجرة وجد بها الأمير حسين كامل، وكان هناك مركب بخاري ينتظر في النيل تحت السراي بأمر من الخديوي، وسرعان ما أنزل المفتش إليه وقد أدرك في لحظة ما سيحل به، وفي نفس الوقت كان المجلس الخصوص يجتمع ويقرر نفي إسماعيل المفتش إلى دنقلة بتهمة تدبيره مؤامرة على الخديوي، فأقلع به المركب البخاري في الحال.
ولما رأي رياض باشا ما حل بإسماعيل المفتش خاف أن يغدر به جزاء على جرأته في إجراء التحقيق فسافر إلى أوروبا عقب انتهاء اللجنة.
أما رواية المؤرخ عبد الرحمن الرافعي. فجاء فيها أن رئيس لجنة المراقبة الثنائية قد طلب إبعاد إسماعيل صديق باشا عن وزارة المالية ومحاكمته، كشرط جوهري لإصلاحها، وبالفعل استقال إسماعيل صديق، وعين مكانه الأمير حسين كامل (السلطان حسين فيما بعد) اعلن إسماعيل باشا المفتش، أنه إذا قدم للمحاكمة فإنه سيشرك الخديوي معه في تبديد أموال الدولة، ففكر الخديوي إسماعيل في التخلص منه، ودبر مشروع محاكمته بتهمة التآمر على الخديوي. قبل أن تبدأ المحاكمة أعتزم أن يتخلص منه بلا جلبة ولا محاكمة، وإنفاذا لهذا الغرض استدعاه إلى سراي عابدين، كعلامة على الثقة به , وهدأ روعه , وتلطف في محادثته , ثم اصطحابه إلى سراي الجزيرة مظهرا رضاه عنه، ولكن لم تكد العربة التي أقلتهما تجتاز حدائق السراي، وتقف أمام باب القصر، حتى نزل الخديوي وبادر إلى إصدار أوامره بالقبض على إسماعيل صديق واعتقاله في ناحية من القصر، ومن تلك اللحظة اختفي نبأه عن الجمهور، وإذ عهد الخديوي إلى أتباعه بقتله، فقتلوه، وألقوا جثته في النيل في نوفمبر 1876 .
أما ألبرت فارمان القنصل الأمريكي، فقد ذكر كل شىء بالتفصيل. وكأنه يكتب رواية، فقد اكتملت في حكايته كل عناصر الدراما.
بمجرد وصولي إلى مصر وقعت حادثة- من الحوادث التي يتميز بها الشرق- في مدينة القاهرة، وكنت عائدا حينذاك من أوروبا إلى مصر في شهر أكتوبر، وكان على الباخرة التي عدت بها مستر جوشن، وهو أحد أعضاء البرلمان وأحد أعضاء وزارة مستر جلاد ستون السابقين، وكان معه المسئول م. جوبير من باريس، وكانوا قد جاءوا كممثلين لحملة السندات من الإنجليز والفرنسيين، وكانت مهمتهم هي التوصل إلى تسوية مع الخديوي إسماعيل باشا في صالح دائنيه أكثر من العروض التي تقدم بها سموه، وكان لا يستطيع أن يدفع فوائد أكثر من خمسة في المائة، وهذا لم يرض أصحاب البنوك في باريس ولندن الذين كانوا يتقاضون عشرة وعشرين في المائة، بل أكثر من ذلك في أغلب الأحيان على القروض المصرية.
كان إسماعيل "صادق" باشا وزيرا للمالية المصرية، كان رجلا ذا مقدرة طبيعية فذة، ومديرا فطنا ذكيا له نفوذه العظيم على الخديوي، ولما كان هو فلاح كان في مقدوره أن يحدد دخول وأرباح تلك الطبقة، وأخذ صادق يطبق نظرية الحكم المطلق أو الاستبدادي، وكان يستولي على المحاصيل إذا لم تستجب مطالبه، وإذا دخل في روعه أن الفلاح يخبئ أمواله أو الأشياء القيمة التي يمتلكها كان يلجأ إلى الحبس أو الجلد حتى يحصل على آخر شلن وآخر متاع، وفي بعض الأحوال كان يحصل على كل ما يمكنه من رهونات من الفريسة المسكينة.. يتبع...