وخبرتنى بهية إن الغيطان أبهى
أعترف لكم بأننى كلما مضى من عمرى عام جديد، كلما اكتشفت أن ما يبهجنى ويسعدنى فى هذه الحياة أصبح أقل.. وعامًا وراء عام أصبح الخوف من «كر الأيام» بلا بهجة ثقيلًا ومرًا.. وكلما وجدت فرصة للهروب من هذه المشاعر، آخد توبى فى سنانى وأهرب بما تبقى لى من مشاعر تساعدنى على الفرح ولو لساعات قليلة.
هذه الساعات القليلة قد أجدها فى نجاح زميل لى أو سيرة شخص أحبه.. أو فى رواية لرجل لا أعرفه.. أو أغنية.. أو كتاب قديم يكشف لى سرًا لم أكن أعرفه.. أو فى قعدة أصحاب لا هدف لها سوى «الصحوبية» فقط.
والغيطان بالنسبة لى ليست مجرد تلك المساحات الخضراء.. وليست صورة الندى وهو يداعب الأوراق الخضراء فى الصباح الباكر.. وليست أسراب العصافير التى تهل فى وقت واحد لحظة الإبكار وقبل الغروب أيضًا.
الغيطان أكبر من ذلك بكثير وأوسع وأشهى وأبهى.. الغيطان.. يعنى.. الأرجل الحافية والجلاليب البسيطة المفتوحة من عند الصدر والأكمام نربطها فى أوساطنا ومن خلف سواعدنا ونتشمر قبل أن تصحو الشمس وتطول أقفيتنا.
«ولفين تروح الشمس من قفا الحصاد»
الغيطان فى موسم الحصاد شىء تانى.. حياة تانية لا يستطيع تقديرها ووزن عواطفها من لم يخامرها ويجرب صباحاتها ولياليها.
شباب وفتيان يصطفون فريقًا بعكس اتجاه سنابل القمح الذى اصفر لونه تمامًا واكتسى باحمرار غريب وكأنه يخبرنا بأنه جاهز للقطاف.. وما أجمل نسمات الضهر فى ذلك الوقت، تلك التى تذهب «بالغف» القادم من وسط الغيطان «يقرص» الأجساد التى تعرت وارتوت بالعرق.. وفى أيدينا «المناجل» تحش الأعواد التى يتلقفها العارفون بكيفية تحويلها إلى «قتاية» بعد ربطها بأحبال الليف التى تم تجهيزها من قلب «النخل».. نخيلنا الذى ذهب جريده إلى الأحباب من أهلنا وجيراننا الذين يحتفلون بأحد السعف فى هذه الأثناء.. هى أيام مفترجة ومباركة.. هذه القتايات تتحول إلى «مسطاح صغير» سرعان ما يلتئم.. ليصبح أطنانًا.. تجىء الجمال لشيلها من الغيطان إلى مكان الجرن.
مشوار الجمل.. هو المشوار الأسعد فى هذه الرحلة.. حيث الغناء فوق ظهره الذى يئن من حمل السنابل.. سنابل القمح.. لكنه سعيد أيضًا لأنه سيعود إلى المنزل أخيرًا وصاحبه يسحبه من «الرسن».. ونحن الأطفال لا تعنينا عودته إلى بيته وطعامه وشرابه.. لكننا نفرح بالجلسة فوق خصره من الأعلى والغناء فى طريق العودة.. حدو الجمالين.. نوع مختلف من الغناء عن أغانى الحصادين سريعة الإيقاع.. الحدو غريب الكلمات والنغمات والإيقاع.. بعض منه أخذه عاطف الطيب وضمنه فيلمه الصعيدى المدهش «هروب أحمد زكى».. وعندما تصل أمواج الجمال إلى موقع الجرن.. تبدأ رحلة أخرى وقصة أخرى بعد أيام قلائل.. نمرح فيها ونلعب كل ما نعرف من ألعاب صعيدية بسيطة.
الأجران التى تتونس ببعضها البعض فرصة لمسامرات الأهل ليلًا على صوت خشخشة أكواب الشاى المزرود.. وأكل البطيخ والشمام المقلوع ليلًا من الغيطان التى حولنا.. هذه الرائحة التى لم تفارق خياشيمى حتى هذه اللحظة ولا أجدها فى أى نوع من الشمام الموجود فى الأسواق حاليًا.. إنه طعم غريب ولون غريب أيضًا لتلك الفاكهة.. يبدو أنها ذهبت لغياب النورج الذى كنا نركبه لحظة بدء عملية «الدراس».. وهى عملية زراعية لفصل القمح عن التبن.. الذى ينهمر «الحسك» منه فيغرق أجسادنا.. وتظل آثاره لأيام حتى بعد الاغتسال منه.. وفى اليوم التالى لعملية الدراس يجىء «أهل الغرابيل» الذين يقومون بعملية «تدرية القمح» ثم غربلته.. ثم يهل أهل الخير من كل حدب وصوب.. أذكر أولئك.. «الغجر» وقراء الودع.. والمزين.. والمغسل.. وعابرى السبيل.. كل هؤلاء يحضرون فى وقت واحد ليحصلوا على نصيبهم من القمح.
البيوت كلها فى القرى تنتظر تلك الساعات.. ساعات الخير.. بهجة لا مثيل لها عند الكبار والصغار.. الآباء لأنهم «باعوا» شقى السنة.. وفاض الخير بجنيهات ربما هى قليلة لكنها تكفى لسداد الديون وشراء هدوم الموسم.. ولتحضير الأرض مجددًا لزرعة جديدة.. وتكفى أيضًا لزواج من عليه «الدور» من الأبناء.. أو ربما لتسفير أم أو جد للحج.
كل ذلك الفرح.. وكل تلك السعادة.. تذكرتها وأنا أتابع رحلة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى توشكى لقطف «عيدان القمح».. التى زهّرت فى توشكى فى نفس الوقت الذى بدأ فيه الحصادون من أهل مصر فى شمال ريفها وجنوبها ودلتاها موسم حصادهم. هو فرح مختلف لم تخلقه الأرقام التى ذكرها وزير الزراعة، والتى تؤكد أن إنتاجنا من القمح هذا العام سيصل إلى عشرة ملايين طن من ثلاثة ملايين فدان ونصف المليون تمت زراعتها هذا العام.
هذه سعادة لا يعرفها إلا من لمست يداه تلك العيدان.. وعاش تلك الأيام التى عشتها وأعتقد أن أهلنا يعيشونها الآن.. دامت بهجتهم ودام غناء فؤاد حداد البديع «وخبرتنى بهية.. إن الغيطان أبهى».