فى جزيرة غمام.. من ذاق عرف
فعلها عبدالرحيم كمال ولعب بنا ومعنا لعبته المفضلة طيلة عشرين ليلة من ليالى رمضان.. خدعنا أولًا عندما قال لنا إن ملعبه سيكون فى «جزيرة» وإنها فى مصر بالقرب من ساحل البحر الأحمر.
اختار لنا «حتة بعيدة» لم يسمها.. وفى المنطقة الرمادية تمامًا تركنا نصارع الموجة.. فلا نحن نرسو على شاطئ، ولا نحن عُمنا إلى بعيد.. فقط نطرح شباكنا وننتظر عسانا نسعد بالكنز أو «بأكلة سمك».
بالبلدى أكل بعقولنا «حلاوة»، ذلك الصعيدى المستغنى الشاعر المغنى.. وراح يغزل «حلاوته الغزل».. ليلة وراء ليلة.. فهو مثل جده شاعر الربابة السوهاجى جابر أبوحسين «بتاع سيرة».. والسيرة تحتاج إلى ألف ليلة وليلة.. وربما أكثر.
هذه ليست سيرة الهلالية.. وإن كان فيها من ريحة «الهلالى».. لكنه هذه المرة فارس مختلف تمامًا.. هو لا يملك أى سيوف.. ولا يمتطى الخيول.. ولا يطمح إلى سلطة.. رغم أن «العايقة» أخبرته بأن زينة الرجال فى ثلاث: «الحريم والمال والسلطة».. فارسنا هذه المرة أقرب إلى الخواجة عبدالقادر وإن ارتدى ملابس الخيش وانتعل الحفاء فى «القيالة».. فى صحراء أقرب إلى البحر.. فلا جزع من «صهدها» على المحب العارف.
بالقرب من تلك المنطقة التى أراد عبدالرحيم كمال أن يجعلها مسرحًا للعبته الجديدة.. يوجد مقام «أبوالحسن الشاذلى» فما الذى ذهب بأبى الحسن إلى تلك الصحراء بالقرب من بحر «مرسى علم»؟ المريدون لا يسألون.. لكنهم فى أثر شيخهم يرحلون كل عام قبيل وقفة عرفات.. نعم هى وقفة عرفات تحديدًا ويأخذون معهم من كل زوج اثنين، ويذبحون الأضحية هناك على باب «الشيخ» حيث جبل «حميثرة».
لكن بلدياتى وابن جيلى عبدالرحيم خرج من عباءة المريدين هذه المرة، ولم يشأ أن يكون شيخه درويشًا أو بهلولًا.. أراده بشرًا سويًا أقرب هو إلى «سيدنا الخضر».. يعرف ويملك من القوة ما لم يتيسر لنبى الله موسى.
هو ليس المسيح.. وإن كان به من تعاليم المسيح الكثير.. وهؤلاء ليسوا الحواريين.. وهذه العايقة ليست «الدنيا».. ولا خلدون هو «الشيطان».. وإن كان به من فعل الشياطين الكثير.
فى روايته السابقة «أهو ده اللى صار» وجد عبدالرحيم كمال ضالته فى «المحبة».. لكنها محبة تختلف عن محبة محمد أبودياب لابنه مرعى.. وفى مسرحيته صاحب الوردة.. منح كمال بطله قدرات العارف الخارق الذى يخرج من الزنزانة دون أن يراه مأمور السجن ولا الحراس.. وهو أيضًا الذى تراه صاحبة الشباك وتمتزج بروحه دون الآخرين.. وهو الذى يخرج من صناديق الموتى ليعبث بكل من هم على خشبة المسرح.. وما انتهى إليه هناك.. على «الخشبة» جاء ليبدأ به فى ظلال الغمام «أسطورته الجديدة».. عبدالرحيم كمال الذى أراد ملاعبتنا بالزمن فقرر أن أحداث مسلسله تبدأ فى زمن الخديو عباس حلمى.. وقبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل.. وقت أن كانت مجرد فكرة لم تنل شرف الإعلان إلا فى وعد بلفور.. فى ذلك الوقت بدأت لعبة عبدالرحيم كمال ليحيلنا إلى «طرح البحر» حتى نظن أنه يقصد الصهاينة الذين احتلوا جزيرتنا بعد أن فرقوا بيننا وقسمونا إلى «أصحاب الدين المتشدد»- كما هو حال محارب.. والدين الممزوج بالمصلحة كما هو يسرى.. وبيننا حاكم للجزيرة لا يريد لها السقوط.. هذا الحاكم رفض منذ البداية وجود محارب لكنه قبل ميراث الشيخ مدين.. ومال إلى عرفات لكن عرفات نفسه رفضه، ورفض كل شىء إلا ما يمليه عليه قلبه.
صراع مختلف تمامًا أداره بذكاء شديد حسين المنباوى فى ثانى تجاربه مع هذه الأجواء الأسطورية التى تقترب من فنون الرواية السحرية.. ولذلك جاء معظم مشاهده أقرب إلى اللوحات التشكيلية، سواء كانت نهارًا أو فى ضوء لمبات الجاز ليلًا.. ولتأكيد واقعيته السحرية تلك.. أضاف ما تيسر من إبداعات موسيقى شادى مؤنس الذى يبحث هو الآخر عن لعبته الموسيقية.. الخاصة.
هذه الدراما ليست صعيدية على الإطلاق.. وإن ارتدت ثوب الصعيد.. وربما لهذا السبب وضع شادى مؤنس موسيقى النهاية بشكل مختلف عن المقدمة الحجارية التى أبدعها إبراهم عبدالفتاح.. ورأى أن تكون لوحة موسيقية خالصة بها كل مسارات الحيرة التى أراد لنا عبدالرحيم كمال أن نعيشها ونحن نبحث عن سر العارف بالله «عرفات» اليتيم الذى لم نعرف له أبًا ولا أُمًا. ربما يكشف صاحب الجزيرة عن بعض نواياه فى الحلقات العشر المتبقية، وربما لن يفعل ويتركنا نكمل حيرتنا إلى عمل درامى قادم.. ويكون هو قد ترك لنا عشرات بل مئات الأسئلة التى تحتاج إلى إجابات ليست مهمة من وجهة نظره فالأهم أنه أبلغنا.. إن أهم ما فى رحلتنا على أرض الجزيرة هو أن نحب.. أن نخلص أرواحنا من المال والشهوة والرغبة.. أن نعرف.. أن نتذوق المحبة الخالصة.. ومن «ذاق عرف». لا تتعشموا فى «العايقة» كثيرًا.. هى تضرب الودع.. لكنها لا تعرف.. وهى ليست رابعة العدوية أيضًا.. وإن كان بها بعض الخير.. فليست كل الأبدان شرًا.. ابحثوا عن «الأبيض»، فالأسود يذهب بالأرزاق.. مثلما ذهب البحر بأسماكه مع دماء «سندس».
راجعوا أسماء شخصيات جزيرة «كمال».. فهو يجيد هذه اللعبة تمامًا.. وراجعوا اقتباساته المعلنة فى «يونس ولد فضة».. وفى مشاهد «لميعة» التى أحبت محمد أبودياب حتى الموت فى أحضانه.. فالأسماء والأماكن إشارات على طريقة أهل الطريقة.
أرادها «صاحبى» ملحمة شعرية خالصة، وأظن أنه نجح فى ذلك تمامًا.. حتى لو فاجأنا فى آخر اللعبة بهزيمة عرفات.. فالمحبون يفوزون حتى فى خسارتهم.