هل للإعلانات من ترياق؟
يقولون نقلًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام إن: "تسعةُ أعْشارِ الرِّزقِ في التِّجَارةِ "؛ ويقول التجار وأصحاب التجارة: تسعة أعشار مكسب التجارة يأتي من الإعلان عن البضاعة؛ ويقول المستهلكون لتلك البضاعة: إن تسعة أعشار البضاعة المعروضة في الإعلان؛ هي ــ بلغة الشارع المصري الآن ــ بضاعة مضروبة .. أو هي ( أولد فاشون ) أو (إكس باير ) أي موضة قديمة ومنتهية الصلاحية .. وذلك بلغة العصر من الشباب الذين يستنكفون الحديث باللغة العربية العصماء؛ ويقول اللغويون الغيورون على اللغة : إن تسعة أعشار هذه اللغة الغريبة نتيجة موجات الإعلانات في الإذاعة والتليفزيون واللوحات المضيئة في الشوارع؛ وهي الإعلانات التي تتجنَّب استخدام "العربية" في الحديث عن محتويات معروضاتها؛ وتحتوى على لغة هلامية بين الفصحى والعامية ؛ وغريبة حتى في أشكال الكتابة .. فمثلًا يكتبون: "نحن نبيعلك كل جديد " وترجمتها :
" نحن نبيع لك كل جديد" .. أرأيتم من قبل ــ هكذا ــ استخفافًا بالعقول؟!
ويقولون عن تسعة أعشار هذه الإعلانات ـ بصرف النظر عن لغة التخاطب : إنه تواكبها موسيقى صارخة؛ تتلوى على إيقاعاتها بعض الأجساد كالثعابين؛ بصرف النظر عن طبيعة المنتج وأهميته؛ ولكنه أسلوب تجاري بحت يخاطب تطلعات ومزاج شباب المجتمعات وبخاصة استهداف العامة والبسطاء من أصحاب الثقافة المحدودة.
ونحن لا ننكر أهمية الإعلانات .. فهي إحدى الوسائل التي تعمل على اجتذاب أكبر عدد ممكن من الناس للإلمام بالمُنتج المعروض وأهميته لظروف المجتمع الحياتية؛ ويساعد أيضًا على اختصار الوقت والمسافة للوصول إلى المستهلك المستهدف من الجمهور؛ وبخاصة الجمهور الذي يمتلك القوة الشرائية لهذا المُنتج، فلا يمكن عرض إعلان عن أحدث سيارة لسكان الأحياء العشوائية أو البدوية أو في أعماق النجوع ذات التركيبة السكانية الفلاحية التي تعتمد على الزراعة مثلًا، وليكون لكل بضاعةٍ مكان عرض ومساحة .. وثمن.
وقديمًا ـ في السوقين المصرية والعربية ــ عُرف عن التاجر اليهودي أنه كان يخصص "تسعة أعشار رأس ماله" في الإعلان عن بضاعته؛ لأنه يعرف بتركيبته الاقتصادية أهمية وخطورة الإعلان ومدى تأثيره على جموع المستهلكين؛ وإنه دون هذا الإعلان سينحصر عدد العارفين بهذا المنتج بدائرة الأهل والأصدقاء، وبعض الأشخاص الذين سيعرفون عنه مصادفة فقط.
ونشاهد هذه الأيام السيل العرمرم من الإعلانات الملونة الراقصة ــ الموجهة إلى أهل النخبة والصفوة ــ عن توافر العديد من الـ ( كومباوندات ) ـ أي المجمعات السكنية ــ التي تتمتع بوجود جيش مسلح من الـ ( سيكيوريتي ) ــ أي رجال الأمن والأمان ــ على أبوابها ومداخلها الكثيرة؛ للحماية والوقاية من تلصص الدخلاء وضمان عدم تلوث حمامات السباحة ذات المياه الباردة التي تقيك حرارة الصيف؛ وعدم المساس أيضًا بـأحواض الـ (جاكوزي ) الذي يمنحك الاسترخاء داخل سحابات البخار الساخن في زمهرير الشتاء؛ ناهيك عن المساحات الخضراء الشاسعة؛ التي تستطيع أن تتمتع في أرجائها بالجلوس مع عائلتك وممارسة لعبة شواء لحوم (الأوزي) والديوك غير البلدية، وتزف البشرى بأن سعر المتر لا يتجاوز المائة ألف جنيه .. يا بلااااااش!!
هذا في حين يجلس أمام الشاشة مشاهدٌ من سكان العشوائيات وبيوت الغلابة أو من ساكني القبور؛ كانت أقصى أحلامه الحياتية أن يقوم بـ ( شَيْ ) كوزين بطاطا على الفحم!
ثم نشاهد بعد هذه الإعلانات مباشرة؛ وفدًا من القساوسة والشيوخ الأجلاء؛ يدعونك للتبرع (ولو بجنيه) لحفر (بئر) على قارعة الطريق ليشرب منها الرائح والغادي؛ من أجل الحصول على الثواب والمغفرة من لدن الله سبحانه وتعالى؛ ويذكرونك بالمرأة التي دخلت الجنة لقيامها بإنقاذ "هِرَّة" من العطش! ولاحظ استخدام كلمة "هِرَّة" ــ ولم يقولوا "قطة" من أجل زيادة إقناع المشاهد والمستمع؛ بأن هذا الحديث جاء من صُلب التراث وكتب السيرة التي وضع سطورها أهل العلم والفلسفة .. والدين.
تلك هي بعض النماذج من الإعلانات التي تحمل في طياتها السموم الناقعات التي تسري بطيئة في جسد المجتمع؛ وتغرس في ضلوعه بذور التمرد والحقد على الدنيا والحياة؛ ولتزدهر وتثمر أشجار الثورة على القوانين والأعراف في المجتمع؛ ويقوم بري تلك الأشجار أصحاب الأجندات الخارجية المعادية للوطن ومسيرته الإصلاحية.
ونقول لمن يهمهم الأمر وأصحاب القرار بالأجهزة السيادية والوزارات المعنية: إن تلك السموم الناقعات التي تسري في الجسد المجتمعي؛ لا تحتاج إلى "معامل وزارة الصحة " أو "سرنجات المصل واللقاح" لإنتاج هذا "الترياق" الذي يشفي من تلك السموم؛ ولكنها تحتاج إلى " معامل الضمير الإنساني اليقِظْ " الذي يقوم بتصدير الطاقة الإيجابية في أوصال البشر؛ لتنمو أشجار المحبة والوئام داخل صفوف وبنيان وكيان المجتمع.
رئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق بأكاديمية الفنون، عضو اتحاد كتاب مصر