يا مجاور ألف مدنة ورزقك بالحلال
أى حد فى العالم تسوقه رجليه ويروح مصر القديمة ونواحى الحسين والسيدة لازم حيشم روايح الجنة، أيوه هى ليست روائح البخور والجاوى والتوابل.. هى ليست عطور الغورية.. لكنها بعض نسائم مصر العتيقة مروية بدعوات الطيبين والدراويش والمبتهلين.
هذا ما أظنه منذ سمعت لأول مرة صوت سيد مكاوى ومن بعده أحمد إسماعيل وهما يرددان رائعة فؤاد حداد «حى على بلدنا.. يا مجاور ألف مدنة ورزقك بالحلال».
لم أكن أفهم وقتها يعنى إيه مجاور.. ولا لماذا هم ألف مدنة.. وهل هناك حبل سرى يربط بين كل تلك المآذن والرزق الحلال؟!
أى عامل نجارة.. أو خراطة.. أو مهووس من فنانى النقش على النحاس.. أو الذين يعملون فى الخيامية أحسبه واحدًا من هؤلاء الذين يقصدهم مولانا فؤاد حداد بـ«رزقك بالحلال».. هذا ما أظنه وأتذكره فى كل حين وليس فى شهر رمضان فقط.. ولكن هذه المرة هناك سبب جديد يدعو للفخر والمباهاة.
الدولة المصرية الآن.. لا تفعل أى شىء بالصدفة.. منذ سنوات وهناك تطويرات تجرى على قدم وساق فى منطقة مصر القديمة.. لم يكن أولها ما جرى فى شارع المعز الذى أضحى تحفة معمارية فريدة من نوعها ولا أدغال الزبالة التى كانت فى عين الصيرة وتحولت إلى بحيرة رائعة تحيطها خيام رمضانية تستقبل الصائمين والمتسحرين على أنغام الموسيقى والابتهالات.. ولا تلك الساحات التى تنطق بآيات الله ليل نهار بالقرب من مسجد عمرو بن العاص.
ولن يكون آخرها ذلك الاحتفال الذى جرى منذ ثلاثة أيام بحضور مندوب منظمة «الإيسيسكو».. ولن تكون الدعوة التى أطلقتها الفنانة إيناس عبدالدايم، وزيرة ثقافة مصر، التى تم اختيارها عاصمة للثقافة فى دول العالم الإسلامى هى نهاية المطاف.
هناك.. عند سور القاهرة الشمالى.. بجوار «باب النصر».. وعلى بُعد ساعات من بدء ليلة العاشر من رمضان بكل ما تعنيه من دلالات، وقف د. سالم بن محمد المالك يتغزل فى مساجد مصر.. وعمارتها.. ودورها الاستثنائى.. وعلى مدار العام الحالى ولمدة ١٢ شهرًا تستمر فعاليات تبلغ ١٤٩ فعالية بين ورش للحرف التراثية والتقليدية ومعارض ومسابقة للتصوير الفوتوغرافى، حيث تستقبل القاهرة الفاطمية المبدعين فى مجال التصوير من كل أنحاء العالم للتبارى فى رؤية كنوز هذه المنطقة التى لا يوجد لها مثيل فى العالم الإسلامى.
هى الحضرة المصرية.. حاضرة ومتألقة تستدعى من الذاكرة الشعبية تراث الأجداد وفنونهم.. وسيرة الأولياء.. تصدح أصوات القراءة المصرية من فوق مآذنها تتنافس على «مقامات الوجد».. تستنطق حضارة الأجداد الذين يبيتون على بُعد مئات الأمتار فى «متحف الحضارة».. فى تكامل بديع مع التطوير الذى يجرى فى منطقة وسط القاهرة «الباريسية».
القاهرة الخديوية حاضرة فى مقدمة المشهد من بداية ميدان التحرير وكوبرى قصر النيل، مرورًا بقصر عابدين الذى جرى تطوير مقدمته أيضًا.. وليس نهاية بدور ومساجد أولياء الله الصالحين التى أمر الرئيس عبدالفتاح السيسى بتجديدها منذ فترة، وها هى عمليات التجديد والتطوير تدخل حيز التنفيذ.. لتعلو صيحات المريدين: مدد يا حسين.. مدد يا أم هاشم.
ما تبذله الحكومة من جهد يومى لتوفير السلع.. غذاء الجسد فى المجمعات الاستهلاكية وفى الأسواق.. لا يقل أبدًا عن ذلك الجهد الذى تبذله فى توفير غذاء الروح ليس للمصريين فقط.. ولكن لزوار «حلوة الحلوات» من العالم أجمع.. هى ليست فرصة فقط لمن يقدرون على دفع ثمن غذاء البطون فى مطاعم القاهرة الجديدة.. لكنها فرصة أيضًا لمن ينشدون غذاء العقل والروح معًا من الفقراء ومتوسطى ومحدودى الدخل.. وربما كان من الذكاء أن يتلو إطلاق إعلان القاهرة عاصمة الثقافة لدول العالم الإسلامى بيوم واحد فقط افتتاح مدير «الإيسيسكو» ووزيرة الثقافة ومحافظ الجيزة معرض فيصل للكتاب فى أحد أحياء محافظة الجيزة الأكثر ازدحامًا، وما لفت نظرى هو ذلك المعرض الذى أقامته دار الوثائق لنوادر كنوزها التى تروى جانبًا مهمًا من سيرة القاهرة.. وحسنًا فعلت وزارة الأوقاف بمشاركتها فى فعاليات معرض كتاب فيصل، وكذلك دور النشر الخاصة التى وفرت كتبًا لم تتصدّ لها هيئات وزارة الثقافة فى تعاون طيب مع الوزارة لصالح المستهلك المصرى من مُحبى القراءة.. أما لفتة تكريم عدد من أبطال حرب أكتوبر فى ذكرى انتصار العاشر من رمضان وسط هذا الزخم الاحتفالى، فقد جاءت فى موعدها ومحلها.. فالحرب مستمرة.. هى حرب الأفكار التى لن تتوقف.. بالتوازى مع حرب المصريين للحصول على رزقهم بالحلال.. مجددًا نحن سننشد فى كل ذكرى لذلك النصر.. وفى كل وقت «حى على بلدنا.. يا مجاور ألف مدنة.. ورزقك بالحلال».