مصر التى فيها.. كل حاجة حلوة
في رمضان، من كل عام، أتحرى دعوة الكنيسة الإنجيلية بمدينة نصر، لحفل الإفطار السنوي، الذي يقيمه مسئولوها، ويدعون إليه لفيفاً من علماء الأزهر وأساتذة جامعته العريقة، ورجال الصحافة والإعلام، والقيادات السياسية والتنفيذية والكُتاب والمفكرين، يحوطهم جمع من رجال الكنيسة وأقطاب الدين المسيحي، في تعبير عن وحدة نسيج مصري يلفنا تحت راية وطن، يجري فينا جميعاً، مجرى الدم في العروق.. أتحرى هذه الدعوة السنوية، التي يهاتفني بها دوماً، أخي وصديقي الحبيب القس الدكتور عزت شاكر، تعبيراً عن حنين أستشعره دوماً، يعيد إليّ مباهج حياة عشتها في بلدتي بوسط الدلتا، كانت المحبة، خيمة يستظل فيها أبناء هذا البلد جميعهم، مسلميهم ومسيحييهم، وتعيد إلى نفسي ذلك الرونق الاجتماعي، الذي عشت في كنفه سنوات طوال من عمري، استمتعت خلالها بنعمة التواصل والمحبة، والحرص المتبادل بين أبناء هذا البلد، على أن يكونوا إنساناً واحداً، دون تمييز من دين أو طبقية.. إحساس مازال يحققه لي، ذلك القس الذي وقف على قارعة الطريق في سوهاج، مع نفر من كنيسته، يوزعون التمور والمثلجات ووجبات الطعام، للمسافرين على هذا الطريق، وقد داهمهم وقت الإفطار، وهم مازالوا في سفرهم.. تماماً، كما يفعل في الغردقة، الإنسان الرائع، محارب عجايبي، الرجل الخمسيني، المصري المسيحي، الذي دأب منذ ثمانية أعوام على إقامة مائدة رحمن، تسع لأكثر من تسعمائة شخص، ممكن أن يُقال عنها، وبقلب جامد، إنها أكبر مائدة رحمن في الغردقة.
إيه الحكاية؟
الموضوع، ومثل ما يرويه الأستاذ محارب، إنه تربى منذ صغره، مثل باقي الناس، على أن أهل مصر نسيج واحد، يجمعهم وطن واحد، وكلنا يعبد رباً واحداً.. وعندما واتته الفكرة منذ ثمانية سنوات، وبدأ في تنفيذها، كان له هدف واحد فقط، "مش عايز غير رضا ربنا"، لإنه مؤمن أن أى خير بيحصل مع أى إنسان، مقترن بفضل ربنا عليه، ثم بدعوات الناس الغلابة له.. ولأنه لا فرق من أى نوع بين المصريين؛ يستعين محارب بـ"شيفات" مسلمين ومسيحيين، وبعدما يصبح الأكل جاهزاً، يجلس الكل، بما فيهم هو نفسه، لياكل مع الناس.. ومع أن المعنى يسبق المبنى في مثل هذه الأمور، وليس مهماً ما تأكل، لأنه يكفي ما يعكسه هذا الطعام من قيم مصرية أصيلة، إلا أن الوجبات التي يقدمها على مائدته تكون عامرة باللحوم والدجاج والحلويات.. هذا عدا عن الوجبات المُغلفة التي تصل إلى الناس البسيطة في بيوتهم، الذين يمنعهم الحياء من الذهاب إلى مائدة هذا الكريم.. يقول محارب، "أعز أصدقائي مسلمين، تربينا مع بعضنا منذ طفولتنا، وعمرنا ما قلنا ده مسلم ولا ده مسيحي، وبحس بالسعادة دائماً لما بفطر مع أهلي وإخواتي المسلمين".. تفصيلة حلوة من مواطن مصري أصيل.
في كتابه "وحدتنا الوطنية بين الثورتين"، الصادر عن دار العربي للنشر، يؤكد الباحث د. رامي عطا صديق، أن الوحدة الوطنية بين المواطنين المصريين، من مسلمين ومسيحيين، تُمثل أيقونة مصرية جميلة أبدعها فنان موهوب.. فهي قيمة إيجابية، ضمنت وحدها وعبر التاريخ العريق، وطناً واحداً ومجتمعاً متماسكاً، يسعى أبناؤه من أجل البناء لا الهدم، من منطلق الإيمان بأننا نعيش في وطن واحد ويجمعنا مصير مشترك، نعاني فيه هموماً مشتركة ونواجه مشكلات واحدة، نعمل على مواجهتها وتجاوزها إلى آفاق أوسع وآمال أكثر رحابة، عبر العيش المشترك والعمل الجماعي، الإيجابي والبناء.. وإذا كانت الوحدة الوطنية بين المصريين قيمة إيجابية، فهي أيضاً علاقة مقدسة، ويجب أن تظل كذلك، لا يمسها أحد بسوء، من أجل تحقيق الخير العام، وصالح هذا المجتمع الذي يضمنا جميعاً وننتمي إليه، نعيش فيه المعنى الحقيقي للسلام الاجتماعي، باعتباره ركناً أساسياً من أركان نهضة المجتمعات الحديثة، وعامل رئيس من عوامل تطورها.
إن الداعين إلى الوحدة الوطنية على أرض مصر الطيبة، مصريون أولاً وأخيراً، مصريون دائماً وأبداً، مصريون قبل كل شيء، يعشقون تراب هذا الوطن، يساهمون في بنائه، كما يشاركون في حمايته والدفاع عنه، لا يبخلون عليه بشيء، يقدمون له كل ما هو غالٍ ونفيس، يؤمنون على الدوام بوحدة مكونات الجماعة الوطنية المصرية، وهم يعتزون دوماً بالانتماء إلى الوطن مصر، ذلك الوطن الذي قال عنه البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، "إن مصر ليست وطناً نعيش فيه، لكنه وطن يعيش فينا"، ولعلها الحقيقة التي سبق وأن أكدها المجاهد الكبير مكرم عبيدـ 1889: 1961ـ بقوله "ها كم وطنيتنا، نحن في الوطن والوطن فينا، شعاراً وشعوراً"، وهي أيضاً الدعوة الرائدة التي دعا إليها العالم الجليل، الشيخ رفاعة الطهطاوي ـ 1801 : 1873 ـ بقوله "ليكن الوطن محلاً للسعادة المشتركة بيننا، نبنيه معاً بالحرية والفكر والمصنع".
لقد تنوعت مشاهد الوحدة الوطنية بين المصريين في التاريخ المعاصر، ففي ثورة 25 يناير 2011، اشتركوا معاً في رفض الظلم والاستبداد، واتحدت رغبتهم من أجل تأسيس دولة ديمقراطية جديدة، تقوم على دعائم المواطنة، التي ترتكز على المشاركة والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، دون تفرقة أو تمييز، دولة قوية قوامها التسامح وقبول الآخر والعيش المشترك، والتعاون البناء واحترام القوانين وتطبيقها على الجميع.. دولة جديدة ناهضة تؤمن بحرية الرأي والتعبير والإبداع، تهتم بالتعليم والبحث العلمي وتُقدّر العُلماء من أبنائها، دولة تتواصل مع إنجازات الماضي وتنقطع عن لحظات الضعف والانكسار، حتى تعود ثانية لتتبوأ مكانتها محلياً وإقليمياً ودولياً، وتستكمل مسيرتها الثقافية وتواصل منجزاتها الحضارية، في داخل مصر وفي إطار محيطها العربي والدولي أيضاً.. لقد كانت لحظة بدت وكأن مصر تبحث عن إشراقة أمل، وفجر يوم جديد، وشمس دائمة لا تغيب.
تعاقبت الأحداث بين مد وجذر، وصعود تيارات سياسية متنوعة، بعضها مارس السياسة على أرضية مدنية وبعضها الآخر على أرضية دينية.. وفي الثلاثين من يونيو 2013، خرج المصريون معاً، مسلمين ومسيحيين، انتفاضاً ضد حكم جماعة الإخوان.. الحكم الذي استمر لنحو عام، خلطت فيه الجماعة ما هو ديني بما هو سياسي، وعبرت الممارسات السياسية لهذه الجماعة، بزعامة مرشدهم، وبعد تولي ممثلهم الحكم، عن رغبة جامحة في الانفراد بحكم مصر، عبر "أخونة" قطاعات الدولة، والسير بالبلاد في اتجاه واحد لا يعرف التعددية ولا يدرك التنوع، وغيرهما من صفات كثيرة ميزت مصر والمصريين عبر قرون طويلة، فاصطدموا بكثيرين، واستخدموا سياسة التهديد والوعيد والاستبعاد لكل من هو مختلف ولا ينتمي إليهم، حتى اكتسب ذلك التيارـ أثناء وجوده في الحكم ـ رفضاً واسعاً من أغلب فئات وقطاعات الشعب المصري.
ومازالت هناك تحديات كثيرة ومشكلات كبيرة يواجهها المصريون سوياً، أملاً في تحسين الحاضر وبناء مستقبل أفضل، مشكلات باتت تطل علينا، بين الحين والآخر، بوجه قبيح يسعى إلى محاولة هزيمة الدولة المصرية والعودة بها إلى الوراء، وتعطيل كل خطوة تستهدف التنمية والإصلاح.. لكن، أيضاً، مازال هناك كثيرون من رواد الثقافة والفكر ورجال السماحة من المسلمين والمسيحيين، من الذين آمنوا بالوحدة المصرية، وحملوا على عاتقهم مهمة التنوير والنهضة والإصلاح، والمساهمة في بناء هذا الوطن وتحديثه.. لأن مصر غير أى مكان آخر في العالم، ناسها وأهلها فيهم طيبة، وجمال لن تجده إلا على أرضها.. وشعب فيه هذا الترابط، لا نخاف عليه.
كل سنة وكل المصريين طيبين، يجمعهم حب هذا البلد وترابه، لأنها مصر التي "فيها حاجة حلوة".