مع الأستاذ حجازى ومختاراته
«خمسون قصيدة» عنوان المختارات الشعرية التى صدرت مؤخرًا للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى عن الهيئة المصرية للكتاب، خمسون قصيدة من الشعر الجميل انتقاها شاعرنا من بين مائة وثمانٍ وأربعين قصيدة تضمها دواوينه السبعة بالإضافة إلى آخر قصائده «أيقونة قبطية» المنشورة فى ٢٠١١، قدم للمختارات الناقد الكبير الدكتور محمد عبدالمطلب، وهو واحد من أهم متذوقى الشعر ومتابعيه فى مصر والعالم العربى، ومن القلائل الذين لم يهرولوا فى اتجاه «زمن الرواية»، المختارات تغطى ستة وخمسين عامًا من تاريخ الشعر والشاعر وتاريخ مصر، منذ ١٩٥٥ إلى آخر قصيدة، بعد مجيئه من تلا محافظة المنوفية صار معروفًا بعد نشره أربع قصائد فقط، لأنه لفت انتباه النقاد بلغته الطازجة، كتب عن هذه القصائد أنور المعداوى وعبدالقادر القط ورجاء النقاش «الذى كان طالبًا»، شاعر يملك عينًا بريئة وإيقاعًا رشيقًا مباغتًا وقلبًا عطوفًا، ويشعر بالوحدة، وصوته لا يشبه أحدًا رغم خروجه من صلب الرومانسيين العظام، شعر إنسانى يعرف طريقه إلى القلب، ملىء بمحبة الحياة حتى لو كان الشاعر حزينًا، كان يرفض المدينة القاسية، المدينة التى يبدو فيها الإنسان ضئيلًا والمبانى عالية، مدينة تبنى مجدها على أشلاء هذا الإنسان، مدينة لا توجد بها حقول ولا تستطيع أن تبحث عن الفجر فيها، حجازى الذى عمل مصححًا للغة العربية فى «دار الهلال» لمدة أسبوعين، وانتقل كصحفى إلى «صباح الخير» و«روزاليوسف» وزامل رفيقه عظيم الشأن صلاح عبدالصبور وأسطوات مهنة الصحافة، جاء إلى المدينة من أجل الشعر، وتحقق له ما أراد، لأن الأحلام «أحلام جيله» كانت فى متناول اليد، كتب وأبدع وأثر فى الشعر العربى كله وأصبح رائدًا من ضمن الرواد، واعترف محمود درويش وأمل دنقل بأستاذيته لهما، سافر وعاد، وبقى الشاعر الذى بداخله يحرس مسيرته، المختارات لم تحتكم إلى ذائقة الشاعر فقط، ولكنها احتكمت إلى ارتباط قصائده بمواقف وتجارب خاصة وعامة، غطت المختارات ذكريات الطفولة والصبا، والصدام بين عالم القرية وعالم المدينة، ومشاعر الفقد والوحدة، والسفر الأبدى والزمن، وعلاقته بالمرأة والسلطة والموت، وعالم الظلام والتشدد الذى لم يتوقف عن مجابهته، أحفظ قصائده التى تمسنى وأنا أتحسس المدينة بالغة القسوة، والتى كتب فيها «سلة ليمون، الطريق إلى السيدة، مقتل صبى، إلى اللقاء»، مدينة لم يشعر بمحبته لها إلا فى قصيدة «حب فى الظلام» حين قال «أحس بأن المدينة تدخل قلبى»، أشعر تجاهه بقرب ما، ليس فقط لأننا «منايفة زى بعض» وننتمى للبيئة نفسها، ولكن لأن طريقته فى القنص تجعله الأقرب فى الشعر والحياة معًا، والذين لا يعرفون الأستاذ حجازى على المستوى الشخصى فاتهم الكثير، أنت أمام موهبة عظيمة تستحق تكريمًا من الدولة يليق بها، هو آخر رواد الشعر العربى النقى، هو مصرى لم يبتذل نفسه ولم يلهث خلف العطايا التى يمنحها الذين لا يحبون مصر المبدعة الملهمة، من الممكن أن نختلف معه فى بعض القضايا، ولكن لا يوجد خلاف على منزلته فى الحياة وفى الثقافة العربية، المختارات صدرت فى أكثر من ٣٠٠ صفحة من القطع الكبير، والتجول فيها سياحة روحية ممتعة، ستتذكر وأنت تائه مقطعًا من هنا أو هناك أو الطريق إلى السيدة، «والناس حولى ساهمون لا يعرفون بعضهم.. هذا الكئيب، لعله مثلى غريب. أليس يعرف الكلام؟. يقول لى.. حتى.. سلام»، ستتذكر مشاهد من طفولتك، مع شعر حجازى تشعر بأنك مع أصدقائك القدامى، أو أنك فى الطريق إلى هدف نبيل، ليس مهمًا النجاح فى تحقيقه، ولكنك ممتلئ بالحماس والغبطة والحيرة أيضًا، الدكتور لويس قال: فى تصورى أن حيرة الشاعر أحمد حجازى كانت أكبر من حيرة غيره، لأنه عرف نعمة اليقين أو نقمته أكثر مما عرفها غيره من أدباء مصر، فلما اهتز هذا اليقين المطلق، أفضى اهتزازه إلى اكتئاب خاص تفرد به أحمد حجازى، أدى إلى الانسحاب إلى الذات كبديل للرفض والاستسلام معًا، وتأثر هذا الانسحاب إلى الذات بثقافته الفرنسية الجديدة، فازدادت كثافة شعره وتغير نسيجه حتى دخل فى مرحلة جديدة، مختارات حجازى فرصة لقراءة الرجل من جديد.. لأنه شاعر جديد، حتى لو اختلفنا معه حول رأيه فى الشعر الجديد.