ماذا تبقى للشعراء؟
طلبت منّى صحيفة عربية شهادة عن الشعر الآن، وهل توجد جدوى من كتابته فى هذا الزمان؟، وافقت فى البداية بسبب الصداقة التى تجمعنى بصاحب الطلب، وحاولت جاهدًا كتابة شىء يحل الموضوع.
أولًا: لست من الذين يجيدون التنظير فى الشعر، وآرائى حوله انطباعية، وبين الحين والآخر أكتب عن ديوان أو شاعر على أمل كسب قارئ جديد للقصيدة التى أحبها وأنحاز لها وأكتبها أيضًا، لأننى مؤمن بأننا جميعًا نعرف الشعر، ولا يمكن لأحدنا تعريفه، تمامًا كما نفشل، على حد تعبير الأرجنتينى العظيم بورخيس، فى تعريف اللون الأحمر أو مذاق القهوة أو حب بلادنا.
الشعر العربى الآن فى حالة جيدة، ولكنه معزول، أو يعافر بمفرده فى أجواء غير شاعرية تحتفى بفنون استهلاكية مستحدثة، وأيضًا توجد عشرات الاتجاهات فى الكتابة، ولكل اتجاه أنصاره وخصومه، وهذا طبيعى، ولكن غير الطبيعى أن تنحاز مؤسسات الدول إلى نوع معين، وتنشئ الجوائز السخية للدفاع عن ذائقة محافظة أقرب إلى السلفية، تعتبر كل ما هو جديد مؤامرة على اللغة وعلى الدين، فى حين أن الشعر الجديد الجيد يكتب بلغة عربية رائقة، متخلصة من الشحوم البلاغية التى تعجب المحافظين، وشعراء هذه القصيدة يعتبرون أنفسهم امتدادًا لكل من سبقوهم، بدءًا من امرئ القيس حتى أمل دنقل وعفيفى مطر.
قصيدة الرواد توارت منذ غزو العراق للكويت، وهى القصيدة التى شهدت المد القومى فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، وتحررت من الشكل العمودى، ولكنها لم تتخلص من قوانين الخليل ابن أحمد العروضية، وكان لا بد من ظهور كتابة أخرى تستوعب الهزائم المتلاحقة التى شهدتها المنطقة، وظهرت أصوات جميلة فى الوطن العربى كله، ولكنها لم تصل إلى الجمهور العريض الذى ركن إلى ما تعلمه فى المدرسة وهو صغير، والذى يستشهد به الوعاظ والسياسيون، وغير مكترث للتجارب التى تعبر عن حساسية هذا الزمان.
اختفى الشاعر النجم من المشهد، لم يعد هناك نزار قبانى ولا محمود درويش ولا عبدالرحمن الأبنودى ولا أحمد فؤاد نجم ولا مظفر النواب، الذين كانت أعمالهم المطبوعة والمسموعة توزع على نطاق واسع، وحل محلهم الروائى والسيناريست والممثل والمغنى والمذيع الذى يعرف كل شىء، وقربتهم السلطات إليهم، لأنهم من خلال شاشة التليفزيون باستطاعتهم أن يلعبوا الدور الذى كان يلعبه الشاعر القديم، الفارس والحكيم والحكاء، والذى باستطاعته رفع منزلة الملوك والانقضاض على الخصوم، فى الوقت الذى أصبح فيه عالم الشعراء اليوم، كما كتب الشاعر الفلسطينى الكبير زكريا محمد، هو عالم حروب ومشاحنات وغنائم وعصاب. فقد طور الإحساس بتفاهة الموقع الاجتماعى لديهم، عامة، عقد جنون العظمة كمرض نفسى سائد. فلكى يتمكن هؤلاء من الاستمرار فى حياتهم المهنية كان عليهم أن يبالغوا فى خطورة دورهم، حد المرض. إنه نوع من الدفاع الذاتى.
ذلك أن القبول بتفاهة الموقع الاجتماعى والتصديق عليه قد يؤدى إلى الصمت، أى الموت الشعرى، جنون العظمة هذا أدى إلى أن يكون الشاعر، فى الغالب، شخصًا غير اجتماعى، ثقيل الظل إلى حد ما، ذلك أنه يرغب، فى كل لحظة، فى إدارة الماء إلى طاحونة، وتركيز الضوء على نفسه. وحين لا ينجح فى ذلك فإنه يتحول إلى شخص ملول عدوانى، وتصبح صحبته متعبة. ونجاح بعض الشعراء فى التكيف اجتماعيًا إنما يتم، فى الواقع، من خلال حرب ضارية ضد أنفسهم ونزعاتهم العميقة.
لكن المعضلة الأكبر بالنسبة للشعراء، كما يقول زكريا، هى أن شعرهم ذاته أخذ يسير فى الطريق الذى يسارع من فقدانهم لما تبقى من حظوتهم الاجتماعية، فهو يتخلى تدريجيًا، عن «رسالته» الاجتماعية المعهودة والمرغوبة، متحولًا إلى بوح ذاتى وتأمل هادئ خفيض الصوت. أى أنه لم يعد سهل الاستخدام من قبل القوى السائدة فى المجتمع.
كلام الشاعر الجميل لا يخلو من وجاهة، ولكن فى المقابل توجد ذائقة تتشكل بين الشباب، واتسعت دائرتها بعد أن فقد نقاد الشعر «المضمون» منزلتهم باتجاههم إلى الكتابة عن الروايات، وأن النوع الذى لم يعرف الإعلام غيره لم تظهر فيه موهبة مقنعة، رغم البرامج التى تجزل بسخاء، ورغم الجوائز، وبات الشعر الجديد أقرب الفنون تعبيرًا عن الواقع.. والعزلة التى يعيشها الجميع.