الترحيب الأوروبى بالمهاجرين الأوكرانيين.. قد لا يدوم!
موجة هائلة من اللاجئين الفارين من أوكرانيا، والتي ستتجاوز قريباً أربعة ملايين شخص.. بالإضافة إلى 6.5 مليون شخص نزحوا داخل أوكرانيا بسبب الغزو الروسي، وقد أجبرت الحرب ما يقرب من ربع السكان على الانتقال، وإذا استمرت الحرب وبدأ الرجال، الممنوعون حالياً من مغادرة البلاد، إذا كانت أعمارهم تقل عن ستين عاماً، الانضمام إلى النساء والأطفال الموجودين بالفعل في الخارج، فقد يتضاعف عدد اللاجئين إلى أكثر من ثلاثة أضعاف.. وهذا من شأنه أن يضع الهجرة الجماعية لأوكرانيا بين الأكبر في التاريخ، مقارنة بالهجرة التي أثارتها الحرب العالمية الأولى.. وهي بالفعل من بين الأسرع تحركاً، حيث يغادر ما يقرب من مليون شخص أسبوعياً البلاد، في المراحل المبكرة من الحرب، وعلى الرغم من أن التدفق قد تباطأ مؤخراً إلى أقل من نصف ذلك، إلا أن الضغط على الحكومات ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية التي تتعامل معه أصبح هائلاً.
إن العواقب المترتبة على أوروبا من هجرة الأوكرانيين إليها غير مؤكدة إلى حد كبير، ولكن من المرجح أنها ستكون عميقة.. يعتمد ذلك على المدة التي يقضيها أشخاص في دول النزوح.. وإذا استمر الصراع، كما يبدو مرجحاً، وزادت أعداد اللاجئين، فسوف تغير هذه الهجرة بطرق دائمة في السياسة الأوروبية واقتصاداتها وتفكيرها بشأن المهاجرين.. وحتى الآن، كانت الاستجابة الغربية فورية وسخية، لكن هذا يمكن أن يتغير إذا أساءت الحكومات إدارة استقبال اللاجئين وإدماجهم، وظهرت خيبة الأمل والتعب.
يؤكد تقرير، نشرته The Economist الأسبوع الماضي، أن الأزمة، وبالفعل، قلبت الافتراضات حول كيفية تفاعل أوروبا مع التدفقات الضخمة من المهاجرين.. إذ بلغ حجم النزوح الأوكراني، ثلاثة أضعاف حجم موجة السوريين وغيرهم، ممن وصلوا إلى أوروبا عام 2015.. كانت ألمانيا والسويد مرحبتين في البداية، ولكن بعد ذلك ازدادت أصوات السياسيين المناهضين للمهاجرين في جميع أنحاء أوروبا، وأدى ذلك إلى تشديد حدود أوروبا، والتوصل إلى اتفاق مع تركيا لمنع اللاجئين السوريين من الانتقال إلى أجزاء أخرى من القارة، و(صد) طالبي اللجوء الذين يصلون عن طريق القوارب، مع رفض السياسيين لفكرة اللجوء ذاتها.
واستجابة للأزمة الأوكرانية، فرشت أوروبا (حصائر) ترحيب، مجازية وحرفية.. وطالب الاتحاد الأوروبي، لأول مرة، بتفعيل قانون الحماية المؤقتة، مما يمنح الأوكرانيين الحق في العيش والعمل، والحصول على مزايا في 26 من أصل 27 دولة عضو فيه.. حتى الدنمارك، التي لديها خيار الانسحاب من هذا القانون، أصدرت قانوناً مماثلاً للحماية.. وبالتالي، فإن الأوكرانيين لن يواجهوا عملية التقدم بطلب اللجوء المطولة وغير المؤكدة، التي كانت تنتظر أولئك الذين وصلوا في عام 2015، أو الحبس في مخيمات.. بعض البلدان التي كانت في السابق أكثر كرهاً لطالبي اللجوء، هي الآن من بين الوجهات الرئيسية للأوكرانيين.
قدم مئات الآلاف من الأوروبيين غرفاً في منازلهم للأوكرانيين المحتاجين.. وتشجع الحكومة البولندية هذا السخاء من خلال تقديم أربعين زلوتي (تسعة دولارات) يومياً لكل لاجئ لمدة شهرين.. وتقدم بريطانيا 350 جنيها إسترلينياً (460 دولاراً) شهريا لكل أسرة، على الرغم من أن بيروقراطيتها جعلت من الصعب على العديد من الأوكرانيين المجيئ إليها.. إيطاليا، التي لديها شتات أوكراني كبير، كانت أيضاً مرحبة، وتجد السلطات أماكن في المدارس المحلية للأطفال اللاجئين.. في ألمانيا، يقدم السكان المحليون أماكن إقامة للأشخاص الفارين من أوكرانيا.
إن التناقض مع رد الفعل تجاه السوريين عام 2015، لا يرجع فقط إلى البشرة الفاتحة والديانة المسيحية لمعظم الأوكرانيين، على الرغم من أن هذا بالتأكيد جزء من التفسير.. كما أن الترحيب باللاجئين جزء من التعبئة لحرب قريبة، يكون فيها حلف شمال الأطلسي وأوروبا، على الرغم من أنهما غير مقاتلين، مؤتلفين مع أوكرانيا بحماس.. ويصلي نشطاء حقوق الإنسان، من أجل أن تستمر روح الترحيب في أوروبا إلى ما بعد الحرب، وأن تمتد في نهاية المطاف إلى اللاجئين الفارين من صراعات أبعد.
لكن مثل هذه الآمال تعتمد على دمج الأوكرانيين بنجاح في البلدان المضيفة لهم، مهما طال الوقت وهو الأمر الضروري، وهذا أبعد ما يكون عن أن يكون مضموناً.. والواقع أن أقرب جيران أوكرانيا يشعرون بالفعل بالتوتر.. مولدوفا، التي استقبلت 370 ألف لاجئ، أي ما يعادل حوالي عشر سكانها، غارقة في مشاكلها الداخلية.. ولذا يعتزم معظم الأوكرانيين الانتقال إلى بلدان آخر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن معظم المولدوفيين يتحدثون الروسية.. أما اللاجئون الجدد، الذين يميلون إلى أن يكونوا أكثر فقراً وأقل احتمالاً، ويرغبون أن يكون لديهم أسرة في أوروبا الغربية، فقد يبقون بأعداد أكبر.
ويعتقد رافال ترزاسكوفسكي، عمدة وارسو، أن هناك حاجة إلى (نظام أوروبي أو حتى عالمي) لنقل اللاجئين إلى أماكن، لديها القدرة على استيعابهم.. ويتفق معه ما يقرب من ثلاثة أرباع البولنديين، وفقا لدراسة استقصائية أجريت مؤخراً، على الرغم من أن الحكومة الوطنية تبذل قصارى جهدها للقول إن اللاجئين يجب أن يقرروا بأنفسهم مكان الاستقرار.. نداء ترزاسكوفسكي يتفق مع إقتراح أنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية الألمانية، بإقامة (مراكز إنسانية) لنقل اللاجئين عبر الاتحاد الأوروبي، وإلى أمريكا عبر جسر جوي، قبل أن ينحسر هذا الحماس.
وقد حسنت البلدان التي سلكها اللاجئون عام 2015، من اليونان إلى بلجيكا، بشكل كبير من قدرتها على تسجيلهم ومعالجة أوضاعهم.. وأقر بعضها، مثل ألمانيا، قوانيناً وأنشأوا مؤسسات لدمج اللاجئين.. وبالنسبة للاقتصادات، يمكن أن يشكل اللاجئون عبئاً ونعمة على حد سواء.. ويقدر بنك جولدمان ساكس، أن أكبر أربع دول في الاتحاد الأوروبي ستنفق ما يقرب من 0.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي لدعم التدفق، على افتراض أن أربعة ملايين لاجئ يأتون إلى المنطقة.. وهذا مبلغ متواضع، لكنه يأتي على رأس الإنفاق الآخر المرتبط بالحرب.. وإجمالاً، من المرجح أن يرتفع عجز الميزانية في البلدان الأربعة بنسبة 1.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
يتمتع الأوكرانيون الموجودون بالفعل في ألمانيا بمؤهلات أعلى من اللاجئين السوريين، الأمر الذي من شأنه أن يساعدهم في العثور على عمل.. إن الوفرة النسبية للعمل تعني أن هناك خطراً ضئيلاً من أن يتهم الألمان القادمين الجدد بتولي وظائفهم.. ومن المرجح أن يرتفع معدل البطالة بضعة أعشار فقط من النقطة المئوية، قبل أن يتراجع مرة أخرى، وفقاً لتقرير حديث صادر عن دويتشه بنك.. على المدى الطويل، قد يقدم الأوكرانيون الذين يدفعون الضرائب مساهمة في الميزانية بدلاً من استنزافها.. لكن مثل هذه التوقعات المبهجة تفترض أن الاقتصادات ستظل قوية، وأن البطالة منخفضة، وهي افتراضات، مفادها أن الارتفاع في أسعار الطاقة المرتبط بالحرب قد يقوض.. وربما يبالغ المتنبئون أيضاً في تقدير حجم العمل الذي ستتمكن منه الأمهات العازبات، اللواتي صدمن من هروبهن من أوكرانيا والقلقات بشأن الأزواج الذين تركوهن وراءهن، خاصة عندما تكون أماكن الرعاية النهارية نادرة ومكلفة.
وإذا استمرت الحرب، وتباطأت الاقتصادات، وفشلت الحكومات في تزويد القادمين الجدد بالسكن والخدمات والوظائف، فقد يتم سحب (حصائر) الترحيب في أوروبا.. ويمكن بالفعل سماع المعارضة في بعض البلدان المثقلة بالأعباء.. وفي رومانيا، يزعم هامش قومي أن أوكرانيا، وليس روسيا، هي العدو.. وفي مولدوفا تعرضت بعض سيارات الأوكرانيين للتخريب، ويخشى فيليبو غراندي، رئيس المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من انتشار العداء.. وحذر في مقابلة مع موقع (بوليتيكو) الإخباري، من أن (التضامن قد يستنفد نفسه ويثير رد فعل عنيفاً).. وسيكون ذلك انتصاراً للرئيس بوتين.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.