الحرب مش نزلة برد
تعجبنى بلاغة أهل الطريقة.. وتسحرنى بلاغة أهل الطريقة.. فأجدنى مشدوهًا إلى وقت طويل بعد سماع كلمات تطربنى من هؤلاء.. وهؤلاء.. لكنها هذه المرة لا سحر ولا شعوذة.. إنها الحرب.. قال صاحبى على المقهى «كلمتين ورد غطاهم».. أعجبنى التعبير الذى أسمعه كثيرًا ولم أكن أفكر فيه.. ماخدتش بالى قبل كده من فكرة «رد الغطا».. وكيف استطاع هذا الرجل- أى رجل مر بجوارنا وألقاها فى وجهنا فى لحظة حاسمة- اقتناص ذلك التعبير المانع الجامع والبسيط فى لحظة واحدة.. لكننى انتبهت إلى خشونة التعبير ودقته هذه المرة عندما أكمل جملته «الحرب مش نزلة برد».. نعم هما كلمتين فيهم الشفا.. «الحرب مش نزلة برد».
كان محدثنا شابًا فى الثلاثينيات.. يعمل فى إحدى الشركات حارسًا للأمن.. مرتبه بسيط.. وطلبات بيته ليست بسيطة بمعدلات هذه الأيام.. كان الشاب يحكى وتكاد الدموع تفر من عينيه عن رحلته البائسة إلى قرية بالقرب من القليوبية أو هى إحدى توابعها اسمها باسوس.. ذهب إليها بعد نصيحة من أحد زملائه لشراء «بامبرز» لطفله الذى جاء إلى الدنيا مع دقات طبول حرب لا يفهمها ولا تعنيه.
لم يعرف أبناء هذه الأيام ماذا تعنى كلمة اقتصاد الحرب.. ولم يشاهدوا أجيالًا من النساء تقتطع أجزاءً من «الأقمشة القديمة».. «بقايا الجلاليب».. لتصنع منها «الكوافيل» التى كن «يلفلفون» بها أعضاء المواليد الجدد.. «إحنا جيل البامبرز».
مرحلة الشاب محدثنا كانت مخيفة، فقد أقنعه الأصدقاء بأن أسعار البامبرز أقل كثيرًا فى «باسوس»، وكان أن استقل «الموتوسيكل» ليذهب إلى هناك وكله عشم فى توفير «أى مبلغ» ينفع فى أيام صعبة لا يعرف كيف يتعامل معها.. هو لا يعرف اقتصاد الحرب.. ولا أى اقتصاد، ولم تؤثر فيه أو به أى تفاصيل مما سمع فى البرامج عن «الشهادات الجديدة» أو سعر الصرف أو هبوط أو صعود الدولار.. كل ما يعنيه من هذا العالم، الذى لا يفهم أيضًا لماذا يحارب بعضه بعضًا، أن يوفر لوليده «البامبرز» الذى خرج من «الحضّانة» بعد أيام قاتلة قضاها هناك لولادته مصابًا بما يسمى «نقص النمو».. و«الصفراء».. هو يعرف أن طفله لا يجيد الكلام بعد ولا مشاهدة ألعاب الحرب فى التليفزيون.. ذهب إلى باسوس مستبشرًا وعاد وهو يخبط كفًا بكف، فقد هالته تلك القفزات التى حدثت فى سعر «البامبرز» ولم يفهم شيئًا من كلام صديقه الذى كلفه تعب المشوار بلا فائدة عندمًا أخبره بأن «سعر الورق زاد».. ورق إيه وهباب إيه؟.. هو راح يشترى بامبرز ما له ومال الورق والاستيراد وسعر العملة ولغز بوتين الجديد وعملته الجديدة التى أصبحت «علمًا» بعدما كنا لا نستسيغ نطقها؟
سمع جارنا العجوز كلام الشاب الباكى الذى لا يعرف كيف يوفر ذلك الفرق فى السعر لباكتة البامبرز ويخاف أن يعود إلى منزله ليخبر زوجته، التى لم تفرح تمامًا بقدوم مولودها، بأنه «لا يستطيع».
فقال ببلاغة حسدته عليها: «الحرب مش نزلة برد».. سترتفع حتمًا أسعار أى شىء يستورده أى فرد فى العالم.. وأضاف: «شوفوا ألمانيا».. وتحدث طويلًا عن فروق فى أسعار الطاقة ومستلزمات الإنتاج التى يستدعيها استخدام العملة الروسية، وعن الفارق الذى ستتكلفه مصانع أوروبا التى تستخدم الغاز الروسى الذى قرر بوتين بيعه بعملة بلاده.. التى ستصبح «رقمًا مهمًا» فى عين خصومه.. وأضاف: «هيروحوا السوق السوده عشان يشتروه».. وشرح أنهم فى هذه الحالة سيضاعفون تكلفة ما يبيعون للعالم ونحن فى آخر سلته.. لتعويض ذلك الفارق.
لم يكن الرجل متشائمًا فيما يخص مصر.. لكنه تدارك: لكننا سنتأثر مثل غيرنا بقدر ما.. الحرب مش نزلة برد ويومين ويعدوا.. إنها الحمى التى تُصيب الفائز والمهزوم معًا ولا تفنى إلا بعد عمر طويل ولا تصلح معها المسكنات.. هى الحمى القاتلة.
سكت الرجل البليغ بعد شرحه الاقتصادى البسيط الذى لم يفهم منه الشاب.. أو ربما رفض أن يفهم منه أى شىء، لكنه قال فجأة: «أنا رحت أشترى بامبرز.. مش عربية شيروكى».
كان الحديث المسيطر على «القعدة»، التى تلت فوزًا غير مبهر لفريق الفراعنة على السنغال وأداء مُخيّب لكيروش واللاعبين، قد ألقى بظلاله على كل من جلس فى المقهى.
أشعل «المرابون» والمستفيدون من الحرب البورصة.. بورصة سوق السيارات.. فتوقف معظم المعارض عن البيع ليومين.. ثم كان أن أُعلنت بشكل غير رسمى زيادة معظم أنواع السيارات.. فارتبك الجميع.. من يبيع ومن يشترى.. فى انتظار أن يحدث شىء يغيّر ما يجرى.. ذلك الشىء الذى يعتقد البعض أنه قد يحدث بصاروخ أو طائرة.. لقد تغيّرت الحروب وصار الاقتصاد هو أهم ملامحها.. أصبحت لعبة تكسير عظام على «كبير»، والمستهلكون فى أى مكان فى العالم هم من يدفعون الثمن.
المستهلكون هذه المرة، سواء للورق أو السيارات أو الذهب أو حتى قرص الطعمية، يدفعون ثمن حرب ظنوا أنها لا تعنيهم فوجدوا أنفسهم فى قلبها.. ولا يملكون من أمرها شيئًا سوى أن يطلبوا من الحكومة.. أى حكومة.. التدخل الخشن لوقف النزيف الذى يجب أن نقتنع أنه لم يكن يومًا «عطسة طارئة».