الطب الوقائي بين الكتاب والسنة والعلم
سيظل حذو الطريق القرآني والهدي النبوي معينا معجزا للعالم لا تنضب ثمراته المباركة ولا ينتهي تأثره الفعال في إرساء قواعد العناية الشخصية للإنسان، والحيلولة بينه وبين المضار المختلفة لإهمالها، عبر نظم بديع من التوجيهات والوسائل التي يسهل على الإنسان تطبيقها في حياته اليومية، وهي في الوقت ذاته طاعة لله يثاب عليها، قال تعالي: "وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ"، التوبة 108، فكانت الطهارة شطر الدين، قال النبي، صلي الله عليه وسلم: "الطُّهورُ شطرُ الإيمانِ"، اخرجه مسلم، وقد جعل الله الماء هو وسيلة الطهارة الأولى، قال تعالي" "وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا"، الفرقان 48.
والماء هو الوحيد الطاهر في ذاته والمطهر لغيره، قال تعالي: "وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، الانفال 11، إذا توفر له شرط النقاء فهو وسط غير ملائم لنمو الكائنات الدقيقة، وذلك لخلوه من العناصر الغذائية المطلوبة لهذا النمو، فضلا عن عدم ملاءمة درجة حرارة الماء لهذا النمو.. ولقد كان الإسلام سباقا في التنبيه إلى أهمية المياه في التطهير، والذي انتقل بنفس الصورة الإعجازية بعد قرون إلى العلم الحديث ليصبح جزءا لا يتجزأ من أساليب مكافحة العدوى، وتحديدا غسيل اليدين "hand hygiene".
حيث أصبح وجوبيا بعد اكتشاف الطبيب المجري "ايجنز فيليب سيملفيس" فاعلية غسيل اليدين بالماء والصابون في الوقاية من الامراض عام 1847، وذلك أثناء عمله في عيادات التوليد في فيينا، حيث اكتشف تزايد الوفيات بحمى النفاس بين السيدات لعدم غسيل الأطباء أيديهم، والطريف انتهاء حياته بمستشفى للأمراض العقلية!! وعلى الرغم من محاولات استخدام الكحول كبديل للماء إلا أنه لم يثبت نفس الفاعلية.
كما جاء القرآن معجزا في جعل الوضوء خمس مرات في اليوم والليلة، قال تعالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ"، المائدة 6، وفي كل مرة يغسل العضو ثلاث مرات ليكون ملهما لأساليب مكافحة العدوى التي أخذت من هذه الروشتة الربانية تكرار غسيل العضو لمرات وتخليل الأصابع لضمان وصول الماء ونزع الخواتم الضيقة وغيرها مما اعتمد في بروتوكول غسيل اليدين "hand hygiene" المعتمد من منظمة الصحة العالمية والمتبع في كل أرجاء العالم .
ننتقل إلى المضمضة التي تشتمل على فوائد جمة في العناية بالفم والاسنان، روى البخاري (191) ومسلم (235) عن عبدالله بن زيد، رضي الله عنه، في وصف وضوء النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "ثم مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا"، وبوب عليه البخاري رحمه الله بقوله: باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة.
وقد ربطت الدراسات الحديثة بين صحة الأسنان وأمراض القلب والسكتات الدماغية، ولهذا سبق الإسلام العلم الحديث في التأكيد على أهمية العناية بالفم والأسنان، فالكائنات الدقيقة تتغذى على بقايا الطعام في الفم وبين الأسنان فتنمو وينشأ عنها إفرازات تنعكس بالسلب على رائحة الفم وصحة الأسنان، وتكرار المضمضة بالفم عدة مرات في اليوم هو خير منظف ومزيل لهذه الافرازات، كما أثبتت التوصيات الطبية الحديثة أن إضافة ملعقة صغيرة من الملح إلى كوب من الماء الدافئ واستخدامها كمضمضة هو خيار مفيد لأي شخص يعاني التهاب الحلق أو تقرحات اللثة أو عقب تدخل جراحي بالأسنان .
وحتى تكتمل هذه العناية الإلهية، فقد أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بالسواك: "تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب، وما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك حتى لقد خشيت أن يفرض علىّ وعلى أمتي"، أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجه، كما ثبت في الصحيحين، إذا قام النبي من الليل يشوص فاه بالسواك لأن ركود اللعاب في الفم من شأنه ازدياد تكاثر الجراثيم .
ويعتبر السواك الصورة الأولى لفرشاة الأسنان بشكلها الحالي، غير أنه يمتاز عنها بأليافه الطبيعية الطرية، فضلا عن غناه بمضادات الأكسدة، وبالفلوريد الذي يكافح تسوس الأسنان، والطريف أن العالم عرف أول فرشاة للاسنان في الصين في نهاية القرن الخامس عشر، حيث كانت قطعة من خشب البامبو وعليها شعيرات خنزير!!! غير أنه وجد أن شعر الخنزير بيئة مناسبة لنمو البكتريا، فضلا عن سرعة سقوطه، فاتجه العالم إلى آلياف النايلون، وبهذا فقد كان للإسلام السبق في تقديم السواك كوسيلة آمنة وخالية من كل هذه المضار ..
*كاتب وباحث مصري