"الإسلاموفوبيا": ظاهرة الجهل بالإسلام والتخويف منه..متى؟ ولماذا؟
شاع اصطلاح «الاسلاموفوبيا» ليعبّر عن ظاهرة الخوف المرضي من الاسلام في الغرب. ولهذه الظاهرة أسباب تاريخية ومعاصرة ومن أعراضها الطعن في رسالة الاسلام والتشكيك بنبوة رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإثارة النزاعات بين المسلمين والسعي لاحتلال البلاد الإسلامية. وسرت هذه الظاهرة من الغرب إلى المتغرّبين داخل عالمنا الإسلامي.
وتحتاج هذه الظاهرة إلى تظافر جهود العالم الإسلامي للخروج باستراتيجية موحدة لمواجهة هذه الظاهرة، وأفضل السبل لمواجهة ظاهرة الخوف من الاسلام بعث الحياة في الجوانب الحضارية لهذا الدين.
ويعد مصطلح «الإسلاموفوبيا» من المصطلحات الحديثة التداول نسبيًا في الفضاء المعرفي المعني بصورة خاصة بعلاقة الإسلام بالغرب. وقد تم نحت المصطلح الذي استعير في جزء منه من علم الاضطرابات النفسية للتعبير عن ظاهرة الإرهاب أو الخوف المرضي من الإسلام.
وهي في الواقع ظاهرة قديمة جديدة، قديمة قدم الدين الإسلام نفسه، وإن كانت قد تصاعدت حدتها في عالم اليوم، وبخاصة في دول الغرب بعد التفجيرات الشهيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من أيلول عام 2001، التي أسندت إلى تنظيم القاعدة.
ولعل الفهم الجدي والعميق لأي ظاهرة من الظواهر هو الخطوة الأولى الضرورية للتمكن من علاج ما يرتبط بها وينجم عنها من مشكلات، التي تجعل من العالم الإسلامي وآهليه عرضة لمسلسل مستمر من إساءة الفهم والإدراج ضمن صور نمطية سلبية شائهة، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر وتحديات جسيمة، تعصف بإمكانات تبلور مفاهيم التسامح والتعايش السلمي والاحترام المتبادل، ليس على مستوى العلاقات بين العالم الإسلامي ودول الغرب فحسب، وإنما على مستوى العلاقات داخل المجال الإسلامي أيضًا.
ومصطلح "الفوبيا" أو الإرهاب، مستمد في الأصل من علم الأمراض النفسية، ليتم التعبير بواسطته عن نوع من أنواع العصاب القهري.
كما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن مخاوف المريض بالإرهاب لا تستند إلى تهديد جدي وفعلي في أغلب الحالات، كأن يخاف المرء من قطة صغيرة أليفة، أو من مكان مرتفع لا مجال لسقوطه منه، أو من وجوده في قاعة مكتظة بأشخاص ودودين لا يمكن أن يشكلوا خطرًا عليه..الخ.
وهذا يعني أن المرض يعبر في حقيقته عن اضطراب نفسي وإدراكي، لعل بالإمكان عزوه إلى أسباب متعددة، ربما كان من أبرزها معايشة خبرات مؤلمة تتعلق بموضوع الإرهاب، وبخاصة في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تتسرب تلك الخبرات غير السارة إلى ما يعرف باللاوعي عند الإنسان.
إن لظاهرة "الإسلاموفوبيا" أسباب متعددة تتفاوت في أهميتها وقوتها، بيد أنها تتضافر فيما بينها لتشكيل الظاهرة على النحو الذي تتراءى به.
ويبدو أن التفاعل المباشر لأبناء الغرب مع المسلمين لعقود طويلة، سواء في سياق احتلالهم بعض الديار الإسلامية إبان ما عرفت عند بعض المؤرخين بالحروب الصليبية، أو في إطار استفادتهم عن طريق رحّالتهم وطلابهم من النهضة العلمية والحضارية التي ازدهرت في كثير من مدائن العالم الإسلامي، يبدو أنه لم يكن كافيًا للنجاح في تبييض الصورة القاتمة التي رسموها في أذهانهم تجاه الإسلام وأتباعه، بوصفه دينًا دمويًا لا يمكن أن يقترن إلا بالعنف والتخلف والإرهاب!.
الجهـل بالإســلام
وفقًا لمقولة دارجة لا تخلو من الصحة، يميل الإنسان في العادة إلى معاداة ما يجهل، بوصفه يشكل خطرًا غامضًا يحسن الاحتراس منه وتجنبه. وهذا ما قد يفسر خوف الكثيرين من الإسلام وميلهم إلى معاداته والنفور منه، حتى بين بعض أبناء المسلمين أنفسهم، الذين يملكون معرفة سطحية بالإسلام!. والواقع إن هناك جهلًا صارخًا بحقيقة الإسلام، وبخاصة في العالم الغربي، الذي يستقي معلوماته عن الإسلام من مصادر قد تفتقر في كثير من الحالات إلى الموضوعية والنزاهة والتجرد، أو الإحاطة الكافية بحقيقة الإسلام وجوهره.
فالمناهج المدرسية وحتى الجامعية في العالم الغربي، ما تزال مثقلة بكم هائل من المعلومات المغلوطة والمضللة عن الإسلام، التي تعود في جذورها إلى نتاجات المدرسة الاستشراقية، إحدى الأذرع التقليدية الرئيسة للاستعمار الغربي. التي يوجد من الشواهد ما يؤكد انطلاقها من مرجعيات قروسطية مصطبغة بروح الحروب (الصليبية)، لا ينقصها الكثير من التعصب والتحيز وتزييف الوقائع وليّ أعناق الحقائق لإثبات مزاعم وافتراضات قبْلية عارية عن الصحة.
تضارب المصالح واختلاف المنطلقات القيمية
على الرغم من أن الجهل بالإسلام قد يشكل سببًا أساسيًا للخوف منه ومعاداته، إلا أنه ليس السبب الوحيد بكل تأكيد. فقد سجل التاريخ أن معرفة الكثيرين بالإسلام لم تحل دون الخوف منه ومناهضته، بل ربما يمكن القول إن تلك المعرفة قد كانت المدخل الرئيس لاتخاذ موقف سلبي منه.
فقد جاء الإسلام ليشكل مشروع رؤية تجديد ما دأبت تعاليم السماء على الدعوة إليه والمناداة به مذ وجد الإنسان على الأرض، رؤية تقوم على تدمير معاقل التظالم بين البشر، ونشر قيم العدالة والأخوة والمساواة والفضيلة فيما بينهم.
وبطبيعة الحال، كان من المحتم أن يصطدم ذلك المشروع بمصالح كثير من الفئات الانتهازية التي كانت تحرص على استمرار الأوضاع المختلة القائمة، بكل ما فيها من استغلال وظلم واعوجاج.
والواقع أن الغرب يتبنى الكثير من السلوكيات الخاصة به، التي ترتبط في كثير منها بالنظام الرأسمالي ومبادئه البراجماتية الساعية إلى تعظيم الربح واللذة والمنفعة الخاصة، وتدخل في الوقت نفسه ضمن دائرة الحريات الاجتماعية والاقتصادية المعترف بها هناك من قبيل: حرية المقامرة، وتناول الكحول، والاشتغال بالربا، وتقنين ممارسة البغاء والعلاقات الجنسية المثلية، والسماح بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية... الخ.
وبكل تأكيد، لا يمكن أن تحظى مثل تلك السلوكيات بمباركة الدين الإسلامي، الذي يعدها ومثيلاتها من المحرمات التي يستدعي اقترافها التجريم والعقاب. ومن ثم، فإن من الطبيعي أن يجد كثير من أبناء العالم الغربي في الإسلام وتعاليمه تهديدًا صارخًا لما يعتبرونها حريات أساسية، لا ينبغي المساس بها أوالتفريط فيها، وتتداخل التعارضات المصلحية والحضارية لترسيم شكل العلاقة بين الإسلام والغرب إلى حد بعيد.
الخلط بين الدين الإسلامي وواقع المسلمين
ليس من الخافي على أحد أن الأمة الإسلامية تعاني منذ قرون عديدة واقعًا مأزومًا على مختلف الأصعدة والمستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو ما ينعكس في وقوف تلك الأمة في ذيل سائر أمم الدنيا على صعيد الإسهام الحضاري والمشاركة في ارتقاء الإنسانية وتقدمها.
فعلى المستوى السياسي، عصفت الحروب والنزاعات المسلحة وما تزال تعصف بأرواح الآلاف من أبناء العالم الإسلامي كل عام، كما هي الحال في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان وسوريا وليبيا على سبيل المثال، وتبدو الدول الإسلامية عاجزة عن فعل الكثير من أجل إيقاف تلك الصراعات أو الانتصار فيها أو تسويتها.
ولا يزال العديد من الدول الإسلامية يخضع بشكل أو بآخر لقوى أجنبية تصادر حريتها وتحد من إمكانات استقلالها الفعلتحت مسمى نصرة الشعوب وحرب الإرهاب إلى غير ذلك من شعارات زائفة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من نصف مليار مسلم يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر هم من أبناء العالم الإسلامي، على الرغم من كل ما تتمتع به دول ذلك العالم من ثروات بشرية وطبيعية هائلة.
الأمر الذي يوجه الأنظار إلى ما تكابده تلك الدول من استشراء الفساد وسوء الإدارة واختلال العدالة في توزيع الموارد والثروات. ليس هذا فحسب، بل إن دولًا إسلامية عديدة قد اجتاحها شبح المجاعات وافترس وحش الجوع مئات الآلاف من أبنائها، كما جرى في كل من النيجر والصومال والسودان وغيرها.
وفي المجال الاجتماعي، يمكن الحديث، بوجه عام، عن معاناة دول العالم الإسلامي تفاوتات طبقية صارخة تتفاقم حدتها عامًا بعد آخر، مع العجز عن إيجاد بناءات حديثة قادرة على الإنجاز الناجح الفعال، وانحطاط مكانة المرأة، وتهميش دور الشباب، وضعف الاهتمام بالأطفال، ناهيك عن اهتزاز المنظومات القيمة وتخلخلها تحت وطأة القيم الغربية الغازية.
وعلى الصعيد الثقافي، يبدو العالم الإسلامي منقطعًا بصورة شبه تامة عن الثورات المعرفية والمعلوماتية والعلمية التي يشهدها العالم، فيبدو الأقل إسهامًا في تلك الثورات، سواء على مستوى الإبداع أو التطوير، أو حتى التعامل والتعاطي مع مخرجات هذه الثورات التكنولوجية والمعلوماتية.. ليغدو في أفضل الحالات مستهلكًا نهمًا، وبصورة استعراضية فجة، لما تنتجه تلك الثورات من تطبيقات وتقانيات!.
وإزاء الواقع المتردي الذي يتخبط فيه العالم الإسلامي، ومع أخذ الجهود الصهيونية والاستعمارية في تعميق ذلك الواقع وإبرازه وتضخيمه بعين الاعتبار، يغدو من الطبيعي انبعاث حالة من المماهاة التلقائية بين الإسلام من جهة، والفقر والتخلف من جهة أخرى، ليتم تحميل الإسلام جرائر ضعف أبنائه وتخلفهم.
وعليه؛ يبدو أنه من العسير أن يتعاطف الغربي - الذي لا يعرف إلا صورة مشوهة عن الإسلام - مع هذا الدين، بل إنه من الطبيعي أن يتخذ منه ـ وهو يظنه سببًا رئيسًا لتخلف أرجاء واسعة من العالم ـ موقفًا سلبيًا عدائيًا، ويولي جزءًا من اهتمامه لمحاربته واستئصال شأفته!.
تبني صورة نمطية سلبية للمسلمين
يتم الخلط بين الأفكار ومعتنقيها، فيتم عزو ما يقترفه هؤلاء من أخطاء وتجاوزات إلى الأفكار التي يزعمون تبنيها، وهذا يظهر واضحًا تمامًا في حالة الإسلام والمسلمين، إذ يتم تحميل الإسلام مسؤولية السلوك غير السوي الذي يصدر عن بعض المسلمين.
وبالإضافة إلى الجهل بحقيقة الإسلام، كما سلفت الإشارة، فإن من مصلحة الكثيرين من أنصار التوجهات الاستعمارية والصهيونية استغلال السلوك السيء للمسلمين للنيل منهم ومن دينهم، وإثبات صحة الصور النمطية المرتسمة في أذهان الكثيرين من أبناء الغرب عنهم.
وبتسليط الضوء على تلك الصور النمطية الماثلة في الذهنية الغربية عن المسلمين، التي تطورت عبر قرون طويلة ظللتها أجواء التصارع والتفاعل المتوتر غير المتوازن بين الجانبين، فإنها تسقط على الشخصية المسلمة كمًّا هائلًا من الافتراءات والخيالات المريضة، فتصورها بالجشع والنهم والغباء والسفه والمكر واحتقار المرأة والتكالب على الشهوات..الخ.
وقد لعبت السينما العالمية ووسائل الإعلام المغرضة التي تخضع لسيطرة واضحة من جانب الدوائر الصهيونية في العالم دورًا أساسيًا في ترسيخ معالم تلك الصور النمطية وتضخيمها وتعميمها، حتى غدت بمثابة الحقائق الثابتة التي لا تحتمل النقاش، التي تحكم تعاطي كثير من أبناء الغرب مع الإسلام والمسلمين!.
وللحقيقة، فقد لعب بعض أبناء المسلمين أنفسهم دورًا لا يستهان به في تصديق تلك الصور النمطية الشائهة، وذلك عن طريق سلوكهم المتخلف والمنحرف أثناء تجوالهم في عواصم الدنيا، مقدمين بذلك الأنموذج الأسوأ عن الشخصية المسلمة، ومن ثم عن الإسلام نفسه!.
كما كان للتطبيق المتزمت للاسلام، الذي يركز على الشكل على حساب الروح والمضمون، من جانب بعض التيارات البدوية المتشددة التي تزعم اتخاذ الإسلام منطلقًا للتشريع فيها، نصيب في عملية الإساءة إلى الإسلام وتخويف الناس منه. إذ أظهرته تلك التيارات وكأنه جلاد قاس متحجر يطارد الناس لسلب حرياتهم وحرمانهم من كل مظاهر البهجة، وإجبارهم على إتيان الفرائض والطقوس الدينية على الرغم منهم!.
وجاءت التفجيرات المدوية على أهداف مدنية في عدد من البلدان الغربية، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسبانيا، والإسلامية أيضًا، كالسعودية ومصر وباكستان والأردن، التي تبنتها جماعات تزعم انتماءها للإسلام، كتنظيم القاعدة وداعش بتفرعاته، لتصب في تيار تصعيد المخاوف من الإسلام، ولتعطي لأعدائه المزيد من المبررات لمحاربته وتضييق الخناق عليه، بحجة مسؤوليته المباشرة عن توليد الإرهاب والإرهابيين!.
ولقد بُحّت أصوات الدعاة والحكماء والمصلحون منذ القِدَم بأن الإسلام بريء من تلكم الشنائع والفظائع براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وكثيرا ما نبيّن للناس أن الإرهاب لا دين له، ولا يَعْدو تمسُّحُ الإرهابيين بالإسلام إلا اتخاذَهم له ستارا لجرائمهم ومصائبهم، فكانت خطيئتهم عندئذ مركّبة، مرّة لأنهم أجرموا وأفسدوا.
وأخري لأنهم ينتهكون الحرمات باسم الله، فجعلوا من أنفسهم بيئة خصبة لتنمية التطرف والعنف، وشكّلوا من تنظيماتهم حائطا حصينا وسدّا منيعا بين الخلق والخالق، فصَدّوهم عن سبيل الله، وتنكبوا طريق الحق، وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إلى حد أن بلد الله الحرام لم يَسْلَمْ من حمقهم وبغيهم! وربُّنا يعلم أن دينه لا يُخدم بهذا الأسلوب أبدا.
"يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُبِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".
* عضو هيئة التدريس بالأزهر