السلفية الجهادية.. تشويه معنى "لا إله إلا الله" على أسنة السيوف
يتخفى دائما قادة وأمراء السلفية الجهادية خلف مصطلح "التوحيد"، الذي يرفعونه على رأس دعوتهم، باعتبار أن ما يفعلونه كله يندرج تحت هذا المفهوم الذي تم تحريفه على أيديهم، من مدلوله العام، إلى مدلول غارق في الخصوصية الشديدة التي حصرته في سيف، وبندقية، وقنبلة، بدلا من الانقياد الكامل لله في كل ما أمر، وقت السلم، ووقت الحرب التي لم يتركها الكتاب والسنة بغير بيان أحكامها كاملة، وهو ما أوقعهم فيما ينافي المعنى الأصلي للمصطلح من حيث لا يشعرون، كما سنبين خلال السطور التالية:
مدخل
يعتبر "التوحيد" من أكثر المصطلحات العقدية التي شهدت جدلا بين الفرق والمذاهب المختلفة، علاوة على الجماعات المتطرفة في العصر الحديث، فالتوحيد مثلا عند المعتزلة يعتبر الأصل الأول من أصولهم الخمسة، ويجعلونه علما على صفات الله تعالى، كما ظهر المصطلح أيضا بمعان تدور حول معرفة الله تعالى وصفاته، لدى الكثير من الاتجاهات الفلسفية والكلامية، وكل يجعله اصلا من أصوله- بحسب رؤيته الخاصة- التي تؤيد توجهه، وفي القرن الثالث عشر الهجري ظهر مصطلح التوحيد أيضا بقوة في أدبيات الدعوة النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، وكان شعاره محاربة الشرك، وتحول المصطلح فيما بعد إلى نوع جديد صار متبوعا بمصطلح آخر هو "الحاكمية، ليشكلا معا مصطلحا لم ترد أي إشارة له لدى المتقدمين أو المتأخرين وهو "توحيد الحاكمية"، الذي تعتبره الجماعات المتطرفة أصلا من أصول الدين، مثلهم في ذلك مثل الشيعة الإمامية الذين يجعلون "الحاكمية" أيضا أصل الدين.
تشويه التوحيد
وقد ارتبط مصطلح "التوحيد" في العصر الحديث بما يطلق عليه السلفية الجهادية.
يقول أبومحمد المقدسي أحد كبار منظري التيار:
أحب أن أنوه بأننا لم نتسم بهذا الاسم، وإنما نعتنا به من سمانا به من الناس، لتمسكنا بما كان من السلف الصالح من الاعتقاد والعمل والجهاد، فالسلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته، والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت، هذه هي هوية التيار السلفي الجهادي التي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية، فبعض الحركات السلفية تقزم وتقصر دعوة التوحيد على شرك التمائم والقبور، ولا تتعرض من قريب أو بعيد إلى شرك الحكام والمشرعين والقصور، بل قد تكون ممن يسير في ركاب الحكام ويعمل على تثبيت عروشهم، مثلما إن بعض الحركات الجهادية تُبوتق جهادها وتحصره في منطلقات وطنية، وترفض رفضا حازما وحاسما أن تتعدى بجهادها حدود الوطن، التيار السلفي الجهادي يخالف هؤلاء وهؤلاء، ومن أجل ذلك فهو يدعو إلى التوحيد بشموليته وفي كل مكان، فحيث وُجد الخلق شرعت دعوتهم إلى التوحيد بشموليته، وحيث وجدت هذه الدعوة وجد الجهاد من أجلها وفي سبيلها ولابد، ولذلك فأنت ترى أن هذا التيار لا يحصر جهاده في بقعة معينة من الأرض من منطلقات قومية أو ارضية، بل ميدانه هي الأرض كلها، فتجد أبناءه يجاهدون في شتى بقاع الأرض"(1).
ومن هذه التصريحات فقد انطلق مفهوم التوحيد من مجرد رسائل علمية، ومناظرات عقدية إلى حركات مسلحة لا تعترف بالحدود ولا بالأوطان، فكما ترى لا تعترف السلفية الجهادية بالأوطان القومية ولا بالحدود، ولا بالحكومات، التي تعتبرهم طواغيت يجب قتالهم وقتال من يواليهم أو يعينهم من شعوب وأجهزة دولة.
ورغم أن مفهوم مصطلح التوحيد، واضح المعنى لدى السلف والخلف على حد سواء، حتى وإن وقع الخلاف بينهما في توضيحة إلا أن السلفية الجهادية قد انحرفت به عن المعاني الثابتة لدى السلف والخلف على السواء، والتي تستند إلى ما يؤيدها من الكتاب والسنة، ومن اجتهادات علماء الامة، فمن الخلف من يفسر التوحيد على أنه : " أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وأنه واحد في صفاته لا شبيه له، وأنه واحد في أفعاله لا شريك له"(2)، ويعرفه السلف بأنه: إفراد الله تعالى بالعبادة وهو شهادة أن لا إله إلا الله(3) ولا شك أن التوحيد لدى الجهادية السلفية يختلف عن هذا وذاك.
ومن خلال تشويه مصطلح التوحيد، ظهر الخلط بينه وبين الجهاد، الذي تم تشويه أركانه وأنواعه على يد هذه الجماعات المتطرفة، التي عملت على تحريف القتال المسلح الذي يعتبر حقا أصيلا من حقوق الدولة الرسمية، وجعلوه لعبة بين أيديهم، فظهر نوعان موازيان للجهاد المسلح المشروع، يعبران عن الجهاد المزور أو الموازي لهذه الجماعات، وهما:
1-قتال العدو القريب، أو "دفع الصائل"(4):
يعتبر دفع الصائل أو قتال العدو القريب، البداية الفعلية للسلفية الجهادية والتي تنحصر في الجهاد القطري المحلي ضد العدو القريب الذي يتمثل في الحكومة التي تحكم عليها هذه الجماعات بداية بالردة، وهو ما يمكن أن تراه في إلحاح ابو محمد المقدسي حول مصطلح العدو الصائل، الذي يعرفه بما يلى:
" الطاغوت الصائل الذي يغزوك ليبطل جهادك، أو ليوقفه، أو ليفرض عليك علمانيته، أو ليفرض عليك قرارات الأمم المتحدة "الملحدة"، أو ليفرض عليك حكومة تحكم بغير شرع الله، هو عدو صائل تنطبق عليه جميع أدبيات الجهاد والثورة والتحرير التي تتحدث عن وجوب دفع الصائل وأنه لا يشترط له شرط، ولا يُفرّق بين المتماثلات التي لم تفرق بينها الشريعة إلا أصحاب الهوى، ونحن على شرطنا بأن التوحيد هو سيد الشروط في كل الأعمال، ولا يسقطه إلا ساقط"(5).
2-قتال العدو البعيد (الجهاد النكائي):
وتتركز هذه المرحلة بحسب مرجعيات السلفية الجهادية- خاصة تنظيم القاعدة- فيما يطلق عليه دعوة المقاومة الاسلامية العالمية غير المحدودة والتي لا تتطلب من المنتمين للتيار، لقاء مباشرا مع قادة الجهاد، وقد لخص منظر القاعدة ابو مصعب السوري هذه المرحلة في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، ووضع فيه قواعد ومنهج الجهاد "النكائي" أو قتال العدو البعيد.
يقول ابو مصعب السوري:
"فقد لخصت فيه خلاصة تجارب وخبرة ربع قرن من مواكبة الصحوة الإسلامية، والعمل وسط التيار الجهادي وسط الأعاصير الداخلية والخارجية التي عاشها.. خلال الفترة الواقعة بين (1980- 2004) عملت خلالها ميدانيا في مختلف وجوه النشاط والمساهمة فكريا وأدبيا وعسكريا وسياسيا وأمنيا..، في عدة ساحات وقضايا ساخنة... ولقد تطورت افكار هذا الكتاب ونضجت عبر اربعة عشر عاما منذ قيام النظام العالمي الجديد وغزو أمريكا للشرق الأوسط غبان حرب الكويت سنة 1990، وخطت مسوداته في كابل في عهد الطالبات (1997- 2001) وكتب بشكله النهائي خلال ثلاث سنوات عجاف قضيناها مطاردين من قبل الأمريكان وأعوانهم المرتدين، ننتقل بين المخابئ والملاجئ خلال (2001-2004)، إلى أن صار النص الذي بين أيديكم"(6).
ومن تحريف معنى الجهاد، إلى تحريف شروطه وأركانه وضوابطه، ومن ذلك ما يمكن أن نراه أيضا في فتوى للمقدسي أيضا نشرها مؤخرا على حسابه بموقع تليجرام، يقول فيها
"فليس لأحد منع الجهاد أو ربطه بإذن أحد من البشر خصوصا جهاد الدفع الذي يتعين على كل أحد ؛ فيجب على الولد دون إذن والديه والمدين دون إذن دائنه ؛هذا فضلا عن أن يربط الجهاد بإذن الطواغيت الذين أماتوه وأبطلوه وامتنعوا عنه ومنعوا الناس منه ؛ ولذلك فليس لما هرف به وزير الأوقاف السعودي وغيره في هذا الاتجاه مستند شرعي ؛اللهم إلا أن يقصدوا بذلك الشرعية الدولية الشركية !! التي تحرم الجهاد وتصفه بالإرهاب والتي يجعجع بها دوما ولاة أمورهم لا شريعة التوحيد الإسلامية .. ومن ثم فهذا إنما يلزم من يعتقد أن أولئك الطواغيت ولاة أمره ؛ ويمشي وراءهم مكبا على وجهه ؛ وفي جهاد الطلب لا في جهاد الدفع ؛ هذا إن كانت هذه الفئام من الناس ترى شرعية نوع من أنواع الجهاد في هذا الزمان أصلا!!
أما المجاهدون الموحدون فلا يلزمهم شيء من ذلك إذ هم يقولون للطواغيت : ( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )".
[ من كتاب : هذا ما أدين الله به ]"(7).
ولا شك أن هذا المنشور يلقى قبولا لدى من لا يمتلكون أدوات العلم الشرعي التي يمثل فقدها كنزا لأمراء الدم، ليسهل التلاعب بعقولهم، وتوجيهها كما يشاءون، فقد اتفق المسلمون متقدمهم ومتأخرهم على وجوب إذن ولي الأمر الشرعي، واستئذان الوالدين واستئذان المدين، والأدلة الشرعية كلها تدور حول ذلك سواء من الكتاب والسنة.
___________________
المراجع والهوامش:
(1)حوار أبو محمد المقدسي مع مجلة العصر، عام 2002، منشور على منبر التوحيد والجهاد.
(2)إحياء علوم الدين، للغزالي، 1/33، والاعتقاد، للبيهقي، 63.
(3) انظر: تفسير الطبري، سورة الزخرف.
(4)دفع الصائل، مفهوم فقهي له ضوابطه الشرعية في كتب السنة، ومن صوره قتال البغاة من الخوارج والجماعات المتطرفة وغيره، أو قتال المحتل دفاعا عن الأرض والعرض، لكن الجماعات المتطرفة حرفت معناه عن الأصل، وجعلته قتالا ضد الحكومات المسلمة والشعوب التي تحكمها.
(5)منشور على قناة أبو محمد المقدسي بموقع تليجرام.
(6) دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، أبو مصعب السوري، 7.
(7)منشور لأبي محمد المقدسي، على قناته الشخصية بموقع تليجرام.