طائفة الإسماعيلية الباطنية.. حينما يتحول العمل السري إلى دولة (1)
لعبت فرقة الإسماعيلية دورًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي، حتى اعتبرها كثير من المؤرخين أهم الفرق في صنع الأحداث الكبيرة بالعالم الإسلامي، كما كان له أثر كبير في نشوء دول كاملة واختفاء أخرى في المشرق والمغرب الإسلامي، وامتد تأثيرها الكبير إلى بلاد المغرب وشمال إفريقيا ومصر واليمن وبلاد فارس، كما وصل تأثيرها إلى بلاد الأندلس.
يقول الدكتور كامل حسين: "لا أكاد أعرف فرقة من الفرق الإسلامية كان لها ما للاسماعيلية من تاريخ طويل حافل بالحوادث والتيارات، فلا غرو أن نسمع باهتمام العلماء بهذه الفرقة منذ ظهورها علي مسرح الحياة السياسية" (1)
النشأة
نشأت فرقة الإسماعيلية في البداية سياسية، وامتدت جذورها السياسية بعد ذلك إلى تقديم تفسيرات خاصة للاسلام وعقائده، اعتمدت فيه على ركنين أساسيين هما:
الإمامة، والتفسير الباطني.
الركن الأول: الإمامة
تعتبر الأمامة أحد الجذور المشتركة بين جميع فرق الشيعة، ويعتبرونها ركيزة أساسية في الدين الإسلامي، فالإمامة لديهم "ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية وهي ركن الدين لا يجوز للرسل إغفالها وإهمالها ولا تفويضها إلى العامة وإرسالها"(2).
ويؤكد هذه الاهتمام بقضية الإمامة ما ذكره حميد الدين الكرماني بقوله: "إن الدارس لكتب الإسماعيلية يرى الإصرار العجيب حول هذا الأصل وتضخيمه حتى يطغى على جميع المعتقدات والآراء فهو محور أساسي تدور عليه كل عقائد الإسماعيلية فعندهم أن الإمامة أحد أركان الدين؛ بل هي الإيمان بعينه، وعن ذلك يقول أحد دعاتهم: إن الإمامة أحد أركان الدين بل هي الإيمان بعينه وهي أفضل الدعائم وأقواها لا يقوم الدين إلا بها كالدائرة التي تدور عليها الفرائض لا تصح إلا بوجودها"(3).
وقد بالغ الاسماعيلية في تقديس الأئمة إلى درجة كبيرة، يقول المؤيد الشيرازي: " إن الأئمة يعلمون أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد"(4).
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي أيضا:
" وقد اتفقوا – أي الباطنية – على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكالات في القرآن والأخبار والمعقولات واتفقوا على أن هذا الإمام هو المتصدي لهذا الأمر وأن ذلك جار في نسبهم لا ينقطع أبد الدهر واتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والاطلاع على حقائق الحق في كل الأمور ولا يتصور في زمان واحد إمامان ويستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والأجنحة ثم قالوا: إن لكل فترة زمنية نبي ناطق ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره وبين كل ناطق وآخر ستة أئمة وعدد النطقاء سبعة أولهم آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين وسوسه علي بن أبي طالب وبعده ستة من الأئمة سادسهم جعفر الصادق وقد استتموا سبعة مع محمد بن إسماعيل الذي صار ناسخا لما قبله وهكذا يدور الأمر أبد الدهر"(5).
الإمامة والتسمية
يعود أصل تسمية فرقة الإسماعيلية نسبة إلى اسماعيل بن جعفر، الذين ذهبوا إلى القول بإمامته من بعد أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ورفض بعضهم التسليم بأنّ اسماعيل بن جعفر، قد توفى في زمن أبيه، مدّعين بأنّ الإعلان بموته والجنازة التي خرجت في زمن أبيه ، كانت تقيّةً من أبيه الإمام جعفر الصادق، للحفاظ عليه وإخفائه عن عيون بني العبّاس، الذين كانوا يتربصون به لقتله.
أمّا البعض الآخر فقد أقرّ بموت إسماعيل بن جعفر، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، ثمّ بقيت الإمامة متواصلة عندهم ليومنا هذا، مع الاختلاف في تشخيص شخص الإمام، والذي أدّى بهم للتفرقة والتشعب الحاصل بينهم عبر القرون المتلاحقة.
ويعتبر زعماء الفرقة، أن محمد ابن إسماعيل هو خاتم الأنبياء، يقول النوبختي(6): "يزعمون كذلك أن لا نبي بعد نبيهم المزعوم، فهم يعتقدون أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل، كما يعتقدون أن محمد بن إسماعيل من أولي العزم من الرسل"(7).
الركن الثاني: التأويل الباطني
كما ذكرنا فإن فرقة الاسماعيلية تعتبر أن الإمامة عماد الدين وهي الركن الأهم بين اركانه التي لا تدانيه مكانة أو منزلة ومن ثم فقد ارتبطت نظرتهم للدين الإسلامين بهذه العقيدة، ولذلك فقد لجأوا إلى تأويل العقائد والعبادات تأويلات باطنية، لتناسب حال الإمامة، باعتبار أن هناك معانى ظاهرية لها ومعان باطنية، تؤيد مذهبهم الذي لم ينل شرف العلم بها إلا هم.
يقول عبدالقاهر البغدادي: " إنهم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء السر للإمام دون الإمساك عن الطعام، وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، واليقين معرفة التأويل....."، ونقل البغدادي رسالة متبادلة بين باطنيين ومما جاء فيها: وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج"(8).
الإسماعيلية والعمل السري
مرت فرقة الاسماعيلية بمرحلتين الأولى تعرف بمرحلة الستر، وهي التي سبقت اختفاء الإمام محمد بن الحسن العسكري في السرداب، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة العلن، وتميزت الفترة الأولى بالغموض الشديد واختلاف الرويات عنها سواء من مؤرخي الاسماعيلية أو غيرهم، ولذلك يقول الدكتور محمد كامل حسين عن هذه المرحلة:
" فأين كانت طائفة الإسماعيلية طوال هذه المدة؟- اي قبل عام 260هـ- هذا مالا نستطيع الإجابة عنه لأننا لم نجد ما نستطيع الاعتماد عليه أو الوثوق به في الكتب التاريخية أو كتب الدعوة الإسماعيلة نفسها... ولاسيما أن كتب التاريخ بين أيدينا لا تشير من قريب ولا من بعيد إلى أي نشاط من فرقة الإسماعيلية قبل هذه السنة (أي 260 هـ)" (9).
ثم يتابع كامل حسين فيقول:
"ولعل أول حركة إسماعيلية ناجحة هي تلك الحركة التي قامت ببلاد اليمن، فإن أحد الدعاة المعروف بالحسين بن حوشب، الملقب بمنصور اليمن، استطاع حوالي 266هـ أن يجمع حوله عددا كبيرا من قبائل اليمن، وأظهر بينهم الدعوة للإمام الإسماعيلي المنتظر، وأن يفتح باسمه عددا من القلاع والحصون باليمن، فاستطاع بذلك أن يؤسس باسم الإمام الإسماعيلي (المنتظر) أول دولة إسماعيلية في التاريخ. أما الداعي ابن حوشب الذي اسس هذه الدولة الإسماعيلية فكان أول أمره من الشيعة الإثنى عشرية، يقال إنه قابل في الكوفة أحد الأئمة المستورين، واستطاع هذا الإمام بعد عدة مقابلات مع ابن حوشب أن يأخذ العهد عليه، ثم طلب منه أن يرحل للدعوة له في اليمن على أن لا يصرح باسمه، ويكتفي بذكر مرتبته وهي الإمامة وأن يأخذ العهد علي كل مستجيب له باسم الإمام المنتظر من نسل محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، أو باسم المهدي المنظر فنشط ابن حوشب مع زميل له هو علي ابن الفضل في هذه الدعوة باليمن، حتى نجحت هذه الحركة ولذلك لقب بمنصور اليمن"(10).
الحلقة القادمة.. الإسماعيلية بين المغرب والشرق الإسلامي
...........................................................................
(1) طائفة الاسماعيلية، تاريخها. نظمها. عقائدها، للدكتور محمد كامل حسين، ص2.
(2) الملل والنحل، للشهرستاني، الجزء الأول، ص 146.
(3) المصابيح في إثبات الإمامة، للكرماني، ص12.
(4) المجالس المؤيدية، للشيرازي، ص 441.
(5) فضائح الباطنية، للإمام الغزالي، ص 42-44.
(6) النوبختي من علماء الشيعة .
(7) فرق الشيعة، للنوبختي، ص 84، المقالات والفرق للقمي، ص85.