فقه نقل المعلومات وتداولها
من سمات العصر الحديث أنه عصر معلوماتي، بسبب ظهور الثورة التقنية المعاصرة، التي فتحت آفاقًا جديدة على النوع الإنساني، وأحرزت تقدمًا نوعيًا هائلًا خلال سنوات قليلة، ما جعل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أهمية كبرى، ترتبط مباشرة بحياة الإنسان اليومية، وأصبح العالم قرية صغيرة مفتوحة، يستطيع المرء أن يطل عليها عبر نوافذ التقنيات الحديثة.
وأصبح تداول المعلومات سهلًا وسريعًا، فالمعلومة الواحدة يمكن في غضون لحظات يسيرة أن تجوب العالم بأسره، وتخترق الأبواب المغلقة لتصل إلى الكبير والصغير، وازداد أثر ذلك مع بروز المنصات الاجتماعية والصحف الرقمية، وما يعج به الفضاء الإلكتروني من مواقع وتطبيقات.
ومن سمات هذه المعلومات الكثرة والتنوع، فالتقنيات الحديثة أتاحت انتشار كميات هائلة من المعلومات في وقت محدود للغاية، وهي متنوعة كذلك، من حيث نوعها، فمنها المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومن حيث موضوعاتها، ومن حيث صدقها وزيفها، ومنفعتها ومضرتها، وأهميتها وتفاهتها، وكونها آمنة أو خطيرة، ما يحتم غرس ثقافة مجتمعية واعية في التعامل مع المعلومات، تُمكِّن الأجيال من حسن الاستفادة من النافع، وتوقي الضار.
ليس كل ما يقال يجب أن يكون صحيحًا، هذه قاعدة مهمة للغاية، يجدر وضعها بعين الاعتبار، ليكون الشخص يقظًا واعيًا تجاه أي معلومة تصله أو يطلع عليها، متحليًا بالتؤدة والأناة، وفي الحديث: «كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكل ما سمع»، قال العلماء: هذا زجر عن التحديث بكل خبر لا يُعلَم صدقُه، فالإنسان الواعي لا يتعجل نشر المعلومات التي تصله، دون أن يُخضعها لمعايير الفحص والتمحيص.
فيتأكد من محتواها ومصدرها، ومن أثرها وجدواها، فقد تكون المعلومة كاذبة، وقد تكون من اختلاق مصدر مشبوه، وقد تتضمن إلحاق أضرار خاصة أو عامة، وقد يمتزج فيها الصحيح بالمكذوب، أو النافع بالضار، على طريقة دس السم في العسل، وقد تهدف لنشر مفاهيم مغلوطة بمعسول من الكلام، وقد تكون المعلومة مجتزأة مبتورة من سياقها، على طريقة من يستدل بقوله تعالى: {فويل للمصلين}، دون إكمال الآيات، وقد تمتزج هذه المعلومات بمؤثرات صوتية أو مرئية أو طرق عرض جذابة، للتغرير بالآخرين.
ولا تتوقف خطورة المعلومة السلبية على زيفها وكذبها فقط، بل قد تكون المعلومة صحيحة من جهة المحتوى، ولكن مضرة نشرها أكثر من منفعته، فقد تترتب عليها مفاسد، وقد تتضمن غيبة أو نميمة أو محاذير أخرى، فالغيبة من جهة مضمونها معلومة صحيحة، ولكنها تُلحق الأذى بالغير، وأما إذا كانت كاذبة فتسمى بهتانًا، وفي الحديث: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته»، ومن أخطر أنواع الغيبة والبهتان ما يتعلق بولاة الأمر، بتشويه صورتهم، والحط من مكانتهم، وكذلك النميمة نموذج آخر، إذ قد تشتمل على معلومات صحيحة، ولكنها تؤدي إلى نشر الكراهية والعداوة بين الناس، وإفساد علاقاتهم، والتفريق بينهم، وفي الحديث: «إنَّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»، فالعجب كل العجب من تلك القنوات الإعلامية الموجهة التي لا همَّ لها إلا الغيبة والنميمة والافتراء، ونشر الأكاذيب، لتفكيك المجتمعات، وتمزيق الدول، والتحريض بين الحكام والمحكومين، أين هي من هذه الآداب الرفيعة وأخلاقيات الإعلام الهادف؟!
ومما ينبغي الحذر منه الشائعات، فهي من أخطر الأدوات الهدامة، وتشمل تأثيراتها إلحاق الضرر بالأفراد أو الأسر أو المجتمعات أو الدول، فكم من شخص شُوهت سمعته، وكم من أسرة دُمرت، وكم من مجتمع تضرر، وكم من دولة عانت، وكل بذلك بسبب شائعات كاذبة مضللة، وازداد ذلك خطورة مع ظهور الإنترنت، ومع وجود الإعلام الموجه والتنظيمات المتطرفة والجهات المعادية، التي تتسلح بالشائعات لتشويه الآخرين، وهنا يأتي دور الإعلام الإيجابي المضاد ودور الأصوات والأقلام الواعية لتفنيد الشائعات، وغرس الثقافة الواعية لوقاية المجتمعات منها.
المعلومات الدينية الزائفة خطر آخر يهدد المجتمعات، خاصة ما يتعلق بالتطرف والإرهاب والغلو، والفتاوى التي تروج لذلك، وقد يكون مصدر هذه المعلومات تنظيمات متطرفة، أو أشخاصًا متعالمين، وقد تشتمل على نصوص دينية، أو أقوال علماء، مع تقريرات فاسدة، واستدلالات منحرفة.
ولذلك قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله وغيره: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم»، فليس كل معلومة دينية صحيحة، بل يجب إخضاع ذلك لمعايير الفحص والتأكد وسؤال المختصين عند الحاجة، وقد أولت دولة الإمارات الفتوى عناية كبرى، ونظَّمت شئونها، ووفَّرت الجهات الرسمية للإفتاء لتلبية حاجات المستفتين، ورسَّخت الخطاب الديني المعتدل.
إن العناية بفقه نقل المعلومات بطريقة رشيدة واعية أمر ضروري، يحفظ المجتمعات، ويصون أمنها واستقرارها، ويحقق لها المقاصد الكبرى.
*كاتب إماراتي
نقلا عن البيان الإماراتية