المشهد العراقي..ضبابية المواقف بانتظار انعطاف المسار في اللحظات الاخيرة
ما زال المشهد العراقي يتميز بالغموض، رغم المؤشرات التي تدل على ان عملية العد والفرز اليدوي التي تقوم بأشراف هيئة قضائية منتدبة، لن تأتي بجديد، رغم الاشارات العديدة الى وجودو عمليات تزوير فاضحة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايسمايو الماضي.
الكتل السياسية التي تجري مفاوضاتها خلف ابواب مغلقة، لا تعلن عن تفاهمات معينة الا بقدر ما يراد له ان يتسرب عبر وسائل الاعلام، لا لإبراز حقائق معينة بقدر ما يحمل رسائل مبطنة الى الكتل الاخرى المنافسة، فتكون اشبه ببالونات أختبار تنتظر ردود الافعال على ما يتسرب هنا وهناك من اخبار غير مؤكدة عن تفاهمات واتفاقات من اجل تشكيل الكتلة الاكبر في البرلمان.
وبقدر ما يبدو المشهد انه تنافس بين المكونات الرئيسية للمجتمع العراقي (الشيعة،السنة،الكرد) الا ان الحقيقة الصراع اتجه ليكون داخليا بين كلّ مكون للحصول على افضل ما يمكن الحصول عليه في عملية تقاسم السلطة التي يبدو انها لن تختلف عن السنوات الخمس عشرة الماضية.
ففي الجانب الشيعي الصراع محتدم على منصب رئيس الوزراء الذي يضع الدستور بيده اغلب الصلاحيات، اضافة الى كونه القائد العام للقوات المسلحة الذي يشرف على تشكيلات الجيش والداخلية اضافة الى الحشد الشعبي،الذي تتمتع تشكيلاته باستقلالية نسبية نظرا لارتباطه بالقوى السياسية. ويواجه حزب الدعوة الاسلامية الذي استحوذ على هذا المنصب طيلة الدورات الثلاث الماضية،تحت مظلة التحالف الشيعي، منافسة كبيرة من داخل التحالف نفسه الذي انشق الى خمس كتل كبيرة يقود الاولى رئيس الوزراء السابق(لدورتين) نوري المالكي تحت اسم ائتلاف دولة القانون، ويقود الثانية رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي بعد خلاف واضح مع المالكي ما ادى الى خروجه من دولة القانون ليشكل تحالف النصر، اما التحالف الثالث فيمثل التيار الصدري ذي القاعدة الشعبية الواسعة لاسيما بين الطبقات الفقيرة، والذي تحالف مع الحزب الشيوعي العراقي ومدنيين مستقلين ليشكل تحالف سائرون، الذي حقق اعلى الاصوات في الانتخابات الاخيرة، ويمثل تحالف النصر الذي يضم القوى المقربة من ايران وتشمل قيادات في الحشد الشعبي (منظمة بدر،وعصائب اهل الحق،وحزب الله) اضافة الى المجلس الاعلى الاسلامي، فيما يقود عمار الحكيم الكتلة الخامسة تحت اسم الحكمة والتي شكلها بعد انشقاقه عن المجلس الاعلى.
وفي هذا الجانب فأن اسماء (حيدر العبادي، ونوري المالكي، وهادي العامري) مطروحة بقوة للوصول الى منصب رئيس الوزراء، ومع افضلية قليلة لحيدر العبادي الا ان الخلاف بين القيادات الثلاث قد يدفع الى تسمية مرشح تسوية، كما حصل في المرات السابقة حين طرح اسم نوري المالكي لتولي الحكومة بعد الاعتراض على ابراهيم الجعفري، كما كان حيدر العبادي المرشح للتسوية بدلا عن المالكي نفسه.
وفي الوقت الذي حصل سائرون على الاصوات الاعلى في الانتخابات الا انه غير مقدر له ان يقود الحكومة بسبب الشروط التي وضعها من اجل تشكيل حكومة مستقلة عن الاحزاب تعمل على محاربة رموز الفساد التي تشكل القيادات الحزبية جزء كبير منها، وهذا الامر لايوافق الاطراف الشيعية التي تشغل المقاعد الاكثر في البرلمان، اضافة الى القوى السنية والكردية التي تبحث عن مكاسب لها عن طريق استمرار نظام المحاصصة وما يعرف بالتوازن في مؤسسات الدولة، ويرى الطرفان ان في الخلافات الشيعية فرصة للحصول على مكاسب اكثر طالما ان اي طرف يريد ان يصل الى رئاسة الحكومة عليه ان يجد له حلفاء من الكتل السنية والكردية.
ولا تنشغل هذه الكتل فقط بالبحث عن المصالح في مؤسسة الدولة فقط، فهي الاخرى تشهد تنافسا محموما فيما بينها للوصول الى كرسي احد الرئاسات المخصص لها وهي رئاسة البرلمان للسنة ورئاسة الجمهورية للكرد.
ففي الجانب السني شهدت الكتل السياسية المنضوية تحت هذا المسمى تنافسا محموما وصل الى حدّ الصراع وتبادل الاتهامات بالتزوير والسعي الى الاستحواذ لاسيما في محافظات الانبار وصلاح الدين ونينوى، وهذا الصراع اضعف كثيرا قيادات هذه الكتل في سعيها للتفاوض مع الاطراف الاخرى ما دعاهم الى الجلوس على طاولة التفاوض وصولا الى تشكيل كتلة موحدة من الاطراف السنية المختلفة للتفاوض في عملية تشكيل الحكومة تحت مسمى واحد.
المطالب السنية تتعلق برئاسة البرلمان الذي تم تسريب اسماء مرشحين اثنين لها بعدما فشل الرئيس السابق سليم الجبوري في الانتخابات، والمرشحين هما طلال الزوبعي الذي كان يشغل رئاسة لجنة النزاهة في البرلمان الدورة الماضية واحد قيادي كتلة القرار، ومحافظ الانبار محمد الحلبوسي الذي اشار تصريح للنائب عن المحافظة خميس المحلاوي الى انه مرشح للمنصب ولكن دون اعلان رسمي لاسيما وانه موضع خلاف بين القيادات السنية،لاسيما بعد اتهامه بلعب دور بتزوير الانتخابات في المحافظة.
ولكن هذا التنافس دفع القوى السنية للتوجه نحو التحالف مع دولة القانون والفتح بدلا عن سائرون رغم الخلافات الظاهرية بينهم، كون المصالح المرتبطة بالحصول على المناصب والامتيازات ربما ستكون اسهل مع الطرف الاول الذي ابدى استعدادا لتنفيذ الكثير من المطالب مقابل منع التيار الصدري من تشكيل الكتلة الاكبر.
وفي هذا الجانب يقف ائتلاف الوطنية الذي يرأسه اياد علاوي موقف وسط وغير حاسم، في الوقت الذي يشدد على ضرورة تشكيل حكومة طواريء تعمل على الغاء الانتخابات الماضية واعادة اجرائها خلال عام واحد،متعللا بالاقبال الضعيف من قبل الشعب للمشاركة فيها ونسبة التزوير الكبيرة التي شهدتها.ولكن تشير الدلائل الى ان اغلبية قياداته يتجهون نحو الكتلة السنية، ويشاركون في مفاوضاتها رغم رفضهم لان تتخذ المفاوضات مسارا طائفيا.
اما الكرد الذين كانوا يأتون الى بغداد دوما بقائمة موحدة فأنهم اليوم يشهدون صراعا داخليا في الاقليم وصل لحد المواجهات المسلحة، فالحزبين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني،والاتحاد الوطني) رغم احتفاظهما بموقع متقدم في الاقليم الا انهما يشعران اليوم بمنافسة حقيقية مع ظهور حركات مثل كوران(التغيير)،و(تحالفالديمقراطيةوالعدالة) الذي انشقا سابقا من الاتحاد الكردستاني، اضافة الى احزاب وتجمعات صغيرة اخرى، والصراع بين الكتل الكردية لايقف على منصب رئيس الجمهورية الاتحادي، بل ايضا ان ذلك المنصب يرتبط بمنصب رئيس حكومة الاقليم،الذي ربما يعد بالنسبة للكرد اهم من منصب رئيس الجمهورية. ويرتبط تسمية رئيس الجمهورية الذي اشارت تسريبات الى طرح اسم مسعود بارزاني له،بتسمية رئيس الحكومة التي تهيمن عليه عائلة بارزاني نفسه.
وبقدر ما يشعرك هذا المشهد من تشظي وعدم وضوح الا ان التدخلات الخارجية لاسيما الضغوط الايرانية والامريكية قد تحرف المسار في اللحظة الاخيرة لتصل الى تفاهمات غير متوقعة كما يحصل في اغلب الاحيان فالطرفان المتصارعان على النفوذ في العراق، لا يرغبان ان يعود التوتر والصراع لهذا البلد فأنه لا يخدم جميع الاطراف بكل الاحوال.
ومع انتظار الاعلان الرسمي لنتائج الانتخابات ومصادقة المحكمة الاتحادية عليها، تبقى الاحتجاجات الشعبية هي الورقة الضاغطة على الكتل السياسية اجمعها بان تسعى الى تفاهمات واضحة لتشكيل الحكومة بعدما بدأت شعارات تغيير العملية السياسية ومواجهة الاحزاب تطغي على مطالب المتظاهرين ما يهدد الاحزاب،الدينية على وجه الخصوص، بمواجهة شعبية لن تكون بمصلحتها بجميع الاحوال.
* كاتب وباحث عراقي