«رجال في الزنزانة»- محمد أبودنيا.. جولة مع قاتل الشيخ الذهبي في طرة
الليلة التى قُتل فيها الشيخ الذهبى، اشترى أبى جريدة «الأخبار» وكان لا يقرأ فى الجريدة سوى أخبار الحوادث!، ولأن أبى العامل البسيط فى مدرسة التجارة الثانوية بنين لم يكمل تعليمه الابتدائى، وكل ثقافته نابعة من خوضه حرب اليمن أيام عبدالناصر، فهو لا يقرأ سوى الحوادث داخل الجريدة، ويقرأ والدى بصوت مرتفع: جماعة التكفير والهجرة قتلت الشيخ الذهبى.. لم أعرف يومها لماذا قتلوه؟! ظل هذا الحادث معلقًا بذاكرتى.. كيف قتلوا شيخًا من شيوخ وعلماء الأزهر؟!.. صورة شكرى مصطفى زعيم التكفير وصورة عينيه الحادتين تقتحمنى.. ظلت صورة هؤلاء الناس تستفز فضولى كلما راح أو جاء أحد منهم أمامى.
تمر السنون، وفى عام ٨٦ أُنقل إلى سجن مزرعة طرة، وكان عمرى فى هذا الوقت ١٩ عامًا ونصف العام، حيث أودعت عنبر التحقيقات.
سجن مزرعة طرة، الذى فيما بعد سيشهد اعتقال نظام رموز مبارك فيه، يتكون من ٤ عنابر، الأول للتحقيقات، والثانى للمحكومين فى قضايا التجسس والتخابر، وكان جلهم يحاكمون فى قضايا تخابر مع إسرائيل، وليبيا، والثالث المحكومون فى قضية الفنية العسكرية، والرابع المحكومون فى قضية التكفير والهجرة، وقتل الشيخ الذهبى.
فى اليوم التالى لدخولى عنبر التحقيقات، وأنا أسير فى الطرقة، التى تفصل ما بين ٣ زنازين فى اليمين ومثلها فى اليسار، فوجئت بأن شخصًا ملتحيًا يخرج من الزنزانة الانفرادى الوحيدة الموجودة بالعنبر، وبمجرد أن رآنى دنا منى وتعرف علىّ، وعقب ذلك وضع يده فى يدى لنكمل المشى معًا، وأخذ يحكى لى عن قضية قتل الشيخ الذهبى.
فوجئت بأن شاويش العنبر يشير لى من بعيد، لكننى لم أفهم ماذا يريد أن يقول لى، حتى بدأ محمد أبودنيا يحكى لى أنه المهدى المنتظر، وأن سجنه بهذه القضية نتيجة أن الحكومة المصرية علمت أنه الرجل الذى ينتظره العالم، ولأنه المنقذ للمسلمين
شكا لى أبودنيا من الظلم الذى يتعرض له، فلما طلبت منه أن يشرح بوضوح ما يعانى منه، قال: إنهن المعجبات بى، اللاتى يأتين لى خارج السجون كى يزرننى، إلا أن الأمن كما كل الجماعات التى تتعاون معه يمنعهن من مقابلتى، وصرخ قائلًا: أنا المهدى أنا المهدى.
ساعتها فهمت فقط إشارات الشاويش لى، فقلت لأبودنيا: أعدك أننى سأنصر قضيتك، واستأذنته فوافق بأعجوبة.
ذهبت إلى شاويش العنبر، فقال الحمد لله إنك نجوت منه.
كان من الممكن لأبودنيا بالفعل أن يؤذينى، وأن يعتدى علىّ.. فقد علمت أنه فقد عقله تمامًا.
حكى لى الشاويش كيف أن طول السجن يُفقد الشخص عقله، وكيف أن الله انتقم من أبودنيا لأنه كان أحد من قتلوا الشيخ الذهبى، وشارك فى قتله بشكل مباشر فأصبح حاله بهذا الشكل.
فى يوم الأحد ٣ يوليو ١٩٧٧ كان محمد أبودنيا واحدًا من المجموعة التى ذهبت لمنزل الشيخ الذهبى بشارع الترابى فى حلوان، لتقوم بخطفه وقتله فيما بعد.
كانت جماعة الخطف، قائدها ماهر عبدالعزيز زناتى، ابن شقيقة شكرى مصطفى، والمسئول الإعلامى لها، ومعه نائب أمير الجماعة، أنور مأمون، وإبراهم حجازى، ومحمد إبراهيم أبودنيا، وضابط شرطة سابق وهو أحمد طارق، وكانوا ساعتها مسلحين بالرشاشات والبنادق الآلية، وحاصروا مقر المنزل فى مجموعتين تستقل كل منهما سيارة مستأجرة.
صعدوا إلى حيث يقطن الشيخ، يتقدمهم أحدهم مرتديًا زى ضابط شرطة فى رتبة رائد، وكانوا من قبل حاولوا تفجير معهد الموسيقى العربية، وسينما سفنكس، وميدان العتبة.
ابنة الشيخ أسماء طالبتهم بتحقيق الشخصية وقالت: «إنتم مش شكل مباحث.. اتصل يا مصطفى بمجلس الوزراء وشفهم مباحث ولا لأ، ونادى على جارنا الضابط يشوف لنا حكايتهم».. فأمسك أحدهم بندقية وهددها، فخاف الشيخ عليها ونزل معهم، فأركبوه سيارة فيات ١٢٨، وفشل أحد أفراد المجموعة فى إعادة تشغيل موتور سيارة أخرى ماركة مازدا تحمل رقم ٢٨٧٩٣ ملاكى القاهرة للحاق بركبهم، فأمسكه الأهالى، وكان محمد أبودنيا، الذى كان خيطًا مهمًا فى الوصول إلى الجماعة.
استطاع الأمن فيما بعد الوصول إلى شكرى مصطفى، وإلى مجموعة من الجناة فى شقة بشارع الهرم، ووجدوا معهم رسالة مشفرة تطالبهم بإخفاء الجثة، ووضع النشادر عليها حتى لا تفوح منها الرائحة.
تبين فيما بعد أن منفذ عملية الاغتيال هو مصطفى عبدالمقصود غازى المشهور بأبوتوبة، وأنه قتل الشيخ برصاصة فى عينه اليسرى قائلًا له: سأقتلك بعينك اليسرى التى يسكن فيها الشيطان.
حكم على محمد أبودنيا بالسجن لمدة ٢٥ عامًا، وفى مزرعة طرة عزلوه بزنزانة انفرادية عقب أن فقد عقله، بينما كان باقى أفراد الجماعة فى عنبر ٣ يقضون أحكامهم، وكان على رأسهم صفوت الزينى، نائب شكرى مصطفى.. وللقصة بقية.