«السيرة الذاتية» و«المذكرات» الحكي على أنقاض التاريخ
التاريخ صناعة، والصناعة تحتاج إلى ملكة ثم دربة، وتعتبر المذكرات الشخصية من المصادر التاريخية المهمة، ومن أدوار التاريخ المتحولة السيرة الذاتية Autobiography أو ما يطلق عليها تاريخ ذات تتواصل مع الوعي بذاتها وحاضرها عن طريق الرواية Narrator، وهي رؤية تكتسب أهميتها الخاصة في تحديد مسيرة التطور الفكري لأي إنسان فاعل في مجتمعه.
وتعني السيرة الذاتية بالجوانب الوجدانية والعاطفية، ولابد لمن يتعامل معها أن يلتفت للبواعث الكامنة وراء كتابة السيرة، فهل هي رغبة في البوح أم رغبة متأخرة في تقديم سيرة اعتبارية لا سيرة شخصية تعني بوصف رحلة البحث عن الحقيقة في بيئة ثقافية يزداد فيها الصراع بين الخيارات العقائدية والفكرية والاجتماعية.
وهي تنتمي إلى علم السرديات (الحكايات) Narratology والتي تشمل على إيقاع السرد وسرعته Speed أو ما يسمي بالديميومة Duration.
هناك أشكال وقوالب كثيرة لكتابة التجارب الشخصية، منها الإعترافات والذكريات والبوح والرسم الذاتي والمذكرات واليوميات والمفكرة اليومية والسيرة الجزئية والرواية والقصة الذاتيتان.
ونأتي إلى المذكرات التي تعد أشهر هذه الفنون على الإطلاق أو ما تعرف بـ Memoirs غير أن البعض مثل الدكتور الجويفلي يذهب إلى استعمال مصطلح الجورنال Journal بديلا عنه لأنه مصطلح بالإنجليزية يعني بتسجيل الأحداث حال وقوعها والانطباعات وقت الإحساس بها وفيها معني المتابعة، وفي المعجم الأدبي لعبد النور يذكر أن " السيرة الذاتية تختلف عن المذكرات بأنها تخص العصر وشؤونه بعناية كبري".
كاتب المذكرات يعمل على استرجاع أطوار حياته الفكرية والثقافية، مبينًا ما قطعه من مراحل، وما اعترضه من عراقيل ومصاعب، وما عاشه من ترددات وتقلبات، وما تقلب عليه من الروافد الثقافية والتيارات الفكرية والأيديولوجية المتباينة.
السيرة الذاتية أيضًا كما يعرفها لنا الدكتور أسامة محمد البحيري أستاذ الأدب في جامعة طنطا في كتابه الجديد " السيرة الذاتية في التراث العربي" هدية مجلة العربية عدد 258 بانها تسجيل تخص صاحب الأحداث والوقائع السياسية التي شهدها أو اشترك فيها، والمعارك الحربية التي خاضها، والمناصب التي تولاها، والأمراء والوزراء وأصحاب الجاه والسلطان الذين عاصرهم والتي توضح تقلبات حياواتهم ولحظات الانتصار والانكسار التي مرت بهم، مع الإلمام بمشاهد من حياة النشاة والطفولة والصبا.
المذكرات والراوي
وهناك بعض المذكرات تحتاج إلى راو ويأتي هنا مفهوم الاستباق ليدل على صدق فراسة الراوي وحسن معرفته بمعادن الرجال وعلو مكانتهم.
ويلجأ الكاتب أو الراوي لعملية اصطناعية يطلق عليها التلخيص Summary وهي تقديم الأحداث التي تستغرق فترة زمنية طويلة في مقاطع سردية قصيرة، دون الخوض في تفاصيلها أي زمن السرد واصغر من زمن الحكاية ويسهم التلخيص في تسريع إيقاع السرد(الحكي) من خلال المرور السريع والمتلاحق على الفترات الزمنية غير المهمة في الحكاية وتقديم الشخصيات الجديدة من خلال عرض سريع موجز لماضيها.
كما يمكن للبعض أن يستخدم أيضا حالة يطلق عليها الحذف Ellipsis وهو إغفال فترة زمنية طويلة أو قصيرة من زمن الحكي وعدم التعرض لها لما جري فيها من أحداث، ويلجأ إليه المؤلف الراوي لتسريع إيقاع السرد من خلال القفز علي الفترات الميتة فى زمن الحكاية، والحذف نوعان، نوع معلن وهو الحذف الذي يعلن فيه الراوي الفترة الزمنية المحذوفة سواء حددها بدقة أو لم يحددها.
وحذف ضمني وهو الحذف الذي يصرح فيه الراوي بالفترة الزمنة المحذوفة، ويمكن للمتلقي إدراكها ضمنا من خلال سياق الأحداث.
فالمذكرات وتصوير أماكنها والأحداث وتطور الوقائع التاريخية الخاصة بها أمر بات في غاية الأهمية وهو نوع تاريخي أيضا بات يعرف في الأوساط التاريخية باسم "التاريخ المصغر" وهو ما قامت به الدكتورة نيلي حنا في كتابها "بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر: دراسة اجتماعية معمارية "، و"ثقافة الطبقة الوسطى في مصر، سيرة أبو طاقية" وكتبها "حرفيون ومستثمرون" والذي اعتمد على سير بعض العائلات وأماكنهم في مصر في القرنين الماضيين، ومنها " شبرا إسكندرية صغيرة في القاهرة" للدكتور محمد عفيفي، وكذلك رواية "المعادي حدوته " لمحمد الغزلان.
لا أعلم لماذا أنساني الشيطان " وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه " ۚفي تحقيق عن منطقة عين شمس بعض الأماكن والأشخاص داخل المنطقة، فمن الأماكن التي نيستها مسجد الشيخ محمد بخيت مفتي الجمهورية وقصة منزله المتهالك القديم وكيف عاش هذا العالم الفاضل في منطقة المطرية وعين شمس والحلمية، كذلك خلف مسجد الشيخ محمد بخيت يوجد منزل المشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الأسبق الذي لم يتركه حتى عندما التحق كملحق عسكري بالولايات المتحدة الأمريكية وقصة وفاة ابنه في ميدان الحلمية في حادث أليم وكيف تصرف الراحل العظيم مع قاتل ابنه!.
حقيقة النظام الخاص
كذلك قصة مختار نوح المحامي الشهير والأشهر في تاريخ الحركات الإسلامية مع المنطقة، والذي يمتلك خزينة حديدة من الأسرار والوثائق تحمل عدة دلائل هامة منذ عام 1978 إلي عامي 1988 وما بعدها طبعًا حيث كان أحد أعضاء الدائرة في مجلس الشعب وله قصة كبير في المنطقة حيث كان يدير أول مسيرة لصلاة العيد في عام 1984، وقصة إحياء التنظيم الخاص بالجماعة الإخوان في منطقة مساكن عثمان في نفس تلك الفترة .
كذلك قصة يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة والذي كان له منزل في ميدان ابن الحكم بمنطقة الزيتون والشيخ محمد جميل غازي في مسجد العزيز بالله في الزيتون وبجواره فيلا الشيخ عبد الحليم محمود والتي باعتها أسرته فيما بعد، والشيخ محمد الأودن الزاهد العابد الذي رفض أن يكون شيخا للأزهر في عصر عبد الناصر وروج الإخوان أنه منهم لفترات كبيرة والذي كان يجلس في نفس الضاحية، وبالقرب منهم الشيخ الراحل عبد المنعم البري الداعية الوسطي المشهور أستاذ فن الدعوة والخطابة علي المنبر ، وقصة مسجد عاطف السادات والذي سمي باسم شقق الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي استشهد في حرب أكتوبر وكيف تحول إلى قبلة للجماعات الإسلامية عندما كان يخطب فيه الشيخ عبد الراضي أمين.
مذكرات بعض قادة الإخوان المسلمين التي تحمل دلالات مهمة على مراحل فكرية عاشوها وأدوار حركية ساهموا بها، تحمل بعض الدلالات التاريخية المهمة والتناقضات الكبيرة أيضا، مثل كتاب "النقاط فوق الحروف- النظام الخاص" لأحمد عادل كمال والذي صدر أمامه الإخوان كتاب "صفحات من التاريخ " لصلاح شادي، وما حمله من دلالة مبكرة عن حالة الخلاف الفكري والتشرذم العقدي داخل جماعة الإخوان المسلمين، والذي لم يعجب بعض الإخوان رد صلاح شادي على عادل كمال فأخرجوا مذكرات محمود الصباغ بعنوان " حقيقة التنظيم الخاص " عن دار الاعتصام والذي حمل ردا ضمنيا على مذكرات صلاح شادي وأحمد عادل كمال ، رغم ان الصباغ كان يعد من المنشقين عن الجماعة والنظام الخاص ولكن استغل الإخوان مذكرته للرد علي احمد عادل كمال .
كذلك مذكرات الحاجة زينب الغزالي "أيام من حياتي" والتي يعتبرها كثير من قواعد الإخوان تاريخا مجردا، رغم أنها اعترفت في كثير من حوارتها أن المذكرات أملتها على بعض المقربين لها لنيل من عبد الناصر ورجالات الثورة ، رغم ما بالكتاب من تناقضات تخالف العقل والمنطق وخاصة قصة تعذيبها بالكلاب على سبيل المثال.
كذلك كتابات خرجت للتبرئة والتطهر رغم أن في ظاهرها ـ التأريخ ـ والكتابة التاريخية مثل كتاب لأحمد عادل كمال عن الصحابي طليحة بن خويلد الأسدي، الذي يعد من أخطر زعماء الردة، ثم حسن إسلامه، فكان من أبرز أبطال الفتوح واستشهد في معركة بنهاون، فقد استعرض أحمد عادل كمال شخصيته وكأنه يريد أن يقول ان خروجه من الجماعة لا يعني ترك انتمائة للإسلام، ومن الممكن أن يحمل خروجه من الجماعة والتي يعتبرها البعض ردة عن الدين بداية جديدة تحمل إنتاجاً دعوياً ثرياً وأكثر عمقًا، ومما لا شك فيه أن القصة حملت سيرة للصحابي وإسقاطا تاريخيا على شخصية المنشق عن الجماعة والاتهام بالردة في بعض سطور الكتاب.
كثير من مذكرات هؤلاء القادة جاءت بالطبع علي انقاض التاريخ ولا تصلح أن تكون مصدر يعتد به في الوثائق التاريخية المعتمدة فيجب الحذر منها.