إسلاميون وعلمانيون.. وحوار مأزوم
ظهرت العلمانية في أوروبا في ظل واقع بائس ؛ حيث كانت الكنيسة تمارس استبدادًا وفسادًا باسم الدين، فكانت تستولي على أغلب أراضي الدولة، وكانت تجمع الضرائب والأموال من الناس مقابل منحهم صكوك الغفران، وكانت لها الكلمة العليا في الدولة وتتحكم في تعيين الأمراء وخلعهم، باسم الدين أيضًا أعطت لنفسها الحق في احتكار الحقيقة؛ ونتيجة لذلك اصطدمت بشدة مع العلم حين توصل العلماء للكثير من الحقائق العلمية التي تخالف الحقائق الدينية من وجهة نظر رجال الكنيسة، وكانت تخشى من فقدان سلطتها القائمة على الخرافة لصالح العلم والعقل، فأقامت محاكم التفتيش التي من خلالها سجنت الكثير من العلماء وعذبتهم واحرقتهم، إلى أن جاءت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر لتمثل تتويجا لصراع كبير ونهاية لحقبة طويلة لحكم ثيوقراطي مستبد؛ لتقوم بذلك لأول مرة دولة على قيم العلمانية المنادى بها منذ زمن بعيد.
حتى بداية القرن التاسع عشر كان الإسلام هو المظلة الثقافية والحضارية والتشريعية للمجتمعات العربية، وفي النصف الثاني من ذلك القرن بدأ الفكر الغربي يتسلل إلى تلك المجتمعات بنظرياته الاجتماعية والفلسفية، وأصبح له مؤسسات ومفكرين يتبنونه ويعملون على ترويجه.
ثم في بدايات القرن العشرين ومع سقوط الخلافة العثمانية وازدياد رواج ذلك الفكر في المجتمع المصري، ومع وجود شعور لدى البعض بفقدان المجتمع لهويته الاسلامية؛ نشأت "الحركة الإسلامية" ممثلة في البداية بجماعة الإخوان المسلمين التي جعلت من أهدافها الرئيسية استعادة الخلافة وأسلمة المجتمع ومقاومة محاولات التغريب، ثم تبعها قيام العديد من الحركات الاسلامية الاخرى التي تكونت خلال القرن المنصرم، ومن هنا كان الصراع الإسلامي العلماني هو عنوان مجتمعاتنا العربية.
الحقيقة أن هذا الصراع، الذي بلغ ذروته في سنوات ما بعد الثورة وحتى اللحظة الراهنة، مما انتج حالة استقطاب شديدة وصلت الى حد المفاصلة بين الطرفين واحدث انقساما يصعب معه الالتقتاء ربما لفترات طويلة قادمة؛ هذا الصراع يمثل عرض لأمراض عدة ؛ فمن جانب يعكس أزمة تعيشها المجتمعات العربية وهي أنها غير قادرة على التعايش، ولا تعترف بالتعددية؛ فنحن نشأنا على أن للحق وجه واحد، ولا ندرك (أن وحدة الحقيقة لا تنفي تعدد زواياها، واختلاف العقول في تفسيرها)، كما يقول د. أحمد كمال أبو المجد في كتابه "حوار لا مواجهة"، فيجب أولًا على أصحاب التيار العلماني أن يقدروا قيمة الهوية الاسلامية التي يتمسك بها قطاع عريض من المجتمع، وعلى الجانب الآخر فإن من مشكلات التيار الإسلامي نظرته الخاطئة لقضية الحق والباطل؛ حيث يظن دائما احتكاره للحقيقة فيصنف الناس دوما بهذا الشكل إما مع الحق أو مع الباطل، وهو بالتالي يرى المخالف له على الباطل، ولكن رغم وجود الحق والباطل في الحياة بلا شك ؛ إلا أنه لا أحد يحوز الحق بشكل مطلق، كما أنه ليس أحد على الباطل بشكل مطلق في كل مواقفه وآراءه ؛ فكما جاء في الحديث النبوي أن " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها " ويفهم من ذلك أن الحكمة - وهي القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ - ليست حكرا على المؤمن، والاسلام دين يخاطب العقل ويهدف من احكامه تحقيق مصالح الناس، وبالتالي فهي ليست أحكاما غامضة ولكن لها عللها الواضحة واهدافها ؛ لذا فمن الطبيعي أن يتوصل الناس بعقولهم إلى تلك الاحكام والمقاصد حتى ولو لم يكونوا مقتنعين بالاسلام كمرجعية، بل حتى ولو كانوا غير مسلمين أيضًا.
كذلك فإن هذا الصراع يكشف عن عيوب داخل التيار الاسلامي الذي لا يفرق بين الدين وبين فهمه للدين، بين النص وتأويله وتفسيره ؛ فيمزج بين فهمه للنص وبين النص ذاته الذي غالبا ما يحتمل إفهاما عدة، فتنسحب قداسة النص على النص ذاته ليعد كل مخالف لرأي هذا التيار هو مخالفة للدين، مع ما يترتب على ذلك من آثار خطيرة، ليتحول معه الأمر من اختلاف في الرأي الى صراع بين حق وباطل، بين ايمان وكفر.
كذلك من ضمن العيوب أن التيار الاسلامي والحركات الممثلة له لم تستطع تقديم قراءة عصرية للاسلام تتماشى مع حيويته وقابليته للتطور التي هي من طبيعة هذا الدين والتي يقر بها الاسلاميون انفسهم، ولم يستطيعوا أن يقدموا برامج عملية لحل مشكلات المجتمع من واقع مبادئ الاسلام ومقاصده، فقدموا صورة في مجملها جامدة في رؤاها وقضاياها المطروحة وفي خطابها كذلك، ولأنها قدمته على أنه هو الدين وليس فهمهما هي له؛ فعندما رفضه البعض من التيارات الأخرى كانت النتيجة أن اُعتبر هؤلاء اعداء للدين عموما، ولم تتهم الحركة الاسلامية يوما نفسها بأنها تسببت ولو بجزء يسير في رفض البعض لرؤاهم، أو أنها قد تكون قد قامت بما قد قام به سيدنا معاذ بن جبل عندما صلى بالناس بسورة البقرة، فشق ذلك على أحد الصحابة الضعفاء فتركه وصلى صلاة خفيفة وحده، فاتهمه الناس بالنفاق، فشكى ذلك للنبي فقال لمعاذ "أفتان أنت !؟"، فهلا سألت الحركة الاسلامية نفسها مرة " أفتان أنت !؟".
نحن هنا لا نهدف للتعرض لآراء كل تيار – الاسلامي والعلماني – في القضايا الخلافية الكبرى والتي انتجت هذا الصراع، ولكن نهدف إلى التأكيد على أهمية الحوار وضرورته وكونه الحل الوحيد لبناء حاضر مستقر والوصول لمستقبل افضل.
الحقيقة التي يجب أن يدركها كلا التيارين أنه لن يستطيع أحدهما القضاء على الآخر، والنتيجة إما صراع يخسر فيه الجميع أو حوار قد يكتشفان من خلاله وجود الكثير من المساحات المشتركة التي يغفل عنها الكثير، (بهذا الأسلوب تظهر نواحي التطابق وجوانب التوافق والتقارب، كما تتبدى وجوه التنافي ومجالات التعارض، وتتبين المساحات الوسطية التي يجيز كل من الأطراف المتحاورة لغيره أن يختلف معه فيها دون شطط، وكل ذلك يكشف عن القدرة الفكرية لكل طرف في أن يستوعب عناصر من فكر الآخر يراها مثرية لفكره هو، ونافعة في تغذية موقفه، وأن يتخلل هذه العناصر ويجد لها في نسيجه،وإن الطرف القادر على امتصاص ما لدى غيره من زاد فكري، هو الطرف الذي يترجح أن تكون له الغلبة، وأن يكون هو الوارث ) " من كتاب الحوار الإسلامي العلماني د طارق البشري".
منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي كانت هناك محاولات لعقد مناظرات بين ممثلي التيار الاسلامي والتيار العلماني، من أشهرها المناظرة التي أقيمت بدار الحكمة بالقاهرة بين د فؤاد زكريا ممثلا للتيار العلماني، وبين د. يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي عن التيار الإسلامي، كذلك المناظرة الشهيرة التي اقيمت بمعرض الكتاب في العام 199 بين د فرج فودة ممثلا للتيار العلماني، وبين د محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي ومأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان، بجانب العديد من اللقاءات التليفزيونية بين ممثلين لكلا التيارين، ولكن ما اتسمت به كل تلك المحاولات أنها لم تكن بهدف التواصل والتفاهم واستجلاء الرأي الآخر ومحاولة فهمه والبحث عن النقاط المشتركة التي قد يجدها كل طرف لدى الآخر، ولكنها كانت أقرب لساحة حرب يهدف فيها كل طرف للفتك من الآخر مستخدما كل م أوتي من وسائل، وكان الأكثر استخداما لتلك الوسائل التيار الاسلامي الذي يعمل على تدشين خطاب عاطفي يجلب الكثير من الأنصار ويبرز الأمر في صورة صراع بين الايمان الذي يمثله التيار الاسلامي والكفر الذي يمثله التيار العلماني منطلقا من تلك القناعات التي ذكرناها سلفا.
بينما الناظر بعين موضوعية غير مؤدلجة، باحثا في مضمون الأشياء بعيدا عن أسمائها، متخليا عن التصنيفات التي تمنع كل طرف من مجرد السماع ومحاولة فهم الاخر، وبعيدًا عن الشعارات التي تطلق لتجلب المؤيدين وتحشد الأنصار من البسطاء ظانين بأن في ذلك النصر المبين ؛ فإنه يرى الكثير من نقاط الاتفاق والمساحات المشتركة بين التيارين المتصارعين، فقد تحدث الكثير من المفكرين الإسلاميين والعلمانيين مثلا عن ضرورة تجديد الفكر الديني، ونلاحظ في هذه القضية اتفاقا في نقاط كثيرة بين الطرفين من حيث وجود اختلاف بين النص الديني وبين فهمه كما تحدث عن ذلك د نصر حامد ابو زيد والذي يترتب عليه أن تأويل النص يختلف باختلاف الظروف ويتغير بتغير الزمان والمكان، وأنه لا يمكن لأحد أن يحتكر فهم الدين او يدعي فهمه بشكل قطعي باستثناء النصوص القطعية، نفس الرأي نجده لدى مفكر اسلامي كالمفكر السوري د عمر عبيد حسنة عندما تحدث عن وجود فارق بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي النصوص ذاتها، بينما الفقه هو تأويل تلك النصوص، فالنص ثابت لكن فهمه يختلف من شخص لآخر، وهو نفس المعنى الذي قال به د. نصر أبو زيد، ولكن عندما نصنف الشخص على أنه علماني فإن ذلك كفيلا برفض كل ما يقول وتلك هي المعضلة.
وعلى ذلك فإن مثل هذه المشتركات لا يمكن الوصول إليها إلا عبر حوار عقلاني هادئ بعيدا عن العواطف والشعارات ومناخ الاستقطاب، وهو ما لا حل سواه.