الغلو في الجهاد .. «الدفاع عن بلاد المسلمين أهم فروض الأعيان» لعبد الله عزام
ربما أغرى عنوان كتاب "الدفاع عن بلاد المسلمين أهم فروض الأعيان" لعبدالله عزام، كل من يقرأه بصورة عابرة، فالكتاب يتحدث عن فريضة الجهاد، ويستند إلى أدلة شرعية من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء القدماء والمحدثين من السلف والخلف، ويروي المؤلف الإجماع على فرضية الجهاد وتفاصيله وآلياته وكلها من الأمور التي لا خلاف فيها ولكن!!.
نقول- ربما- لأننا عندما اطلعنا على الكتاب بشكل عابر، وتصفحنا محتوياته لمعرفة أبوابه لأول مرة، لم نشك أن فيه مخالفة شرعية، ولكن بإعادة القراءة مرة أخرى تبين أن المخالفة تقع في الأساس الذي اعتمد عليه المؤلف، وامتد إلى بنية الكتاب كلها.
عنوان الكتاب وإسقاط حرف الجر "من"
يحمل العنوان دعوة صريحة للدفاع عن بلاد المسلمين، وهو أمر لا يمكن لمسلم أن يعترض عليه، أو يرى أن فيه مخالفة للكتاب والسنة، كما ينم عن حب الأوطان والدعوة إلى الزود عنها، إلا أن الشق الثاني من العنوان، يعتبر أن ذلك أهم "فروض الأعيان" أي أهم ما يجب على المسلم فعله دون منازع، فهل فعلا الجهاد هو أهم فروض الأعيان؟، أم أنه واحد من أهم الفروض؟ وأن هناك ما هو أهم منه؟، وهل بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد؟، أو أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، المسلمين بأن يقدموا الجهاد على غيره من الفروض باعتباره أهم فروض الأعيان كما ذكر المؤلف؟.
بالطبع، لا، وقد اتفق علماء المسلمين في القديم والحديث على أن هناك فرقا بين لفظ "أهم" ولفظ "من أهم"، وبالتالي فإن الإسقاط المتعمد لحرف الجر "من"، فيه دلالة واضحة على الغلو في المسألة من بداية الكتاب، فلو أنه جعل العنوان "الدفاع عن بلاد المسلمين (من) أهم فروض الأعيان"، لخرج من ضيق الغلو إلى سعة الفهم الصحيح للجهاد.
وعن هذه المخالفة، فقد أجمع علماء السلف على أن أهم فريضة على المسلمين هي التوحيد، أما الجهاد فيأتي تبعا لذلك، ولا يتحقق الجهاد إلا بعد تحقيق التوحيد الذي لابد منه لدخول الإسلام.
وقد استند عزام نفسه على أدلة شرعية في مقدمة كتابه (ص7) تؤكد مخالفته في هذه المسألة ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف؛ حتى يعبد الله تعالى لا شريك له...".
وفي الحديث دلالة واضحة على أن الجهاد وسيلة لتحقيق أهم فروض الأعيان، وهو أن يعبد الله وحده، وليس غاية في حد ذاته، أو أنه أهم من الغاية التي جاء بها الإسلام.
وليس الجهاد وحده هو السبيل لنشر الإسلام، ولكن هناك ما هو أولى منه، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل حينما أرسله لدعوة أهل اليمن، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك، لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
إذن فأهم فروض الأعيان هو تحقيق كلمة التوحيد وكل الواجبات بعدها تأتي تبعا لها ومنها الجهاد، وليس العكس، والبحث في هذه المسألة من الناحية العقدية يبين ما وقع فيه عزام من مخالفة لمنهج السلف والخلف، على السواء، فالسلف يرون أن أهم فروض الأعيان هو التوحيد وتحقيق كلمة لا إله إلا الله كما ذكرنا، والأشاعرة يقولون إن "النظر" هو أهم فروض الأعيان، وغيرهم من المتكلمين وبعض الصوفية يرون أن المعرفة القلبية هي أهم فروض الأعيان على المسلم المكلف، ولم يقل أحد بما قاله عزام، بل هناك إجماع على أن الجهاد لا يأتي إلا في مرتبة تالية، وأنه ليس أهم فروض الأعيان كما زعم.
الجهاد فرض عين على من؟
رغم اعتماد عبدالله عزام على منهج أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم من أهل العلم في باب الجهاد، إلا أنه خالف هذا المنهج في (ص 17) تحت عنوان "حكم القتال الآن في فلسطين وأفغانستان، قال عزام:
"لقد تبين فيما سبق أنه إذا اُعتدي على شبر من أراضي المسلمين؛ فإن الجهاد يتعين على أهل تلك البقعة، وعلى من قرب منهم، فإن لم يكفوا أو قصروا أو تكاسلوا يتوسع فرض العين على من يليهم، ثم يتدرج فرض العين بالتوسع حتى يعم الأرض كلها شرقا وغربا، وفي هذه الحالة لا إذن للزوج على زوجته وللوالد على ولده وللدائن على مدينه".
وفي هذه الفقرة تحميل المسلمين جميعا بما لا يطيقون من الإثم والذنوب، رغم أن الله تعالى قد خفف عنهم بقوله تعالى: " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" [البقرة: 286].
كما خالف المؤلف ما استشهد به من أقوال الأئمة الذين اتفقوا على أن الجهاد لا يكون فرض عين في حال جهاد الدفع إلا على من اقترب من الموضع الذي دخله جيش الأعداء بمقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وأنه يكون فرض كفاية في غير ذلك، ومن الذين قالوا بذلك الإمام ابن جزى المالكي في كتابه " "القوانين الفقهية" (ص: 126) قال:
" والجهاد يكون فرض عين في البلاد التي يُعتَدَى فيها على حرمات المسلمين أو مقدساتهم مِن قِبَل الغزاة البغاة، ويتعين على أهلها الدفاعُ عنها، ولا يلزم الجهاد حينئذٍ كلَّ أحد من المسلمين وإنما يصير على من كان خارجها فرض كفاية كما نص عليه الفقهاء".
ومن الشافعية أيضا فقد قال الشربيني الخطيب في كتابه الإقناع:
"والحال الثاني من حالَي الكفار أن يدخلوا بلدة لنا مثلًا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم. ويكون الجهاد حينئذٍ فرض عين… ومَن هو دون مسافة القصر مِن البلدة التي دخلها الكفارُ حكمُه كأهلها وإن كان في أهلها كفاية؛ لأنه كالحاضر معهم... ويلزم الذي على مسافة القصر المضيُّ إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية؛ دفعًا لهم وإنقاذًا من الهلكة، فيصير فرض عين في حق من قَرُب وفرض كفاية في حق من بَعُد".
تحريف القرآن في الاستئذان
ويقع عزام في تحريف كلام الله ورسوله، حينما يريد إسقاط شرط الاستئذان من الجهاد فيقول:
"أمر الاستئذان: ولزيادة الإيضاح في هذه المسألة نقول، وبالله التوفيق: (إن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عقد الراية واستنفار الأمة)؛ بل كان استئذان النبي استشارة بعد عقد النية أو بعد تسجيل اسم الصحابي في الغزوة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: هل لك من أم؟ فقال: نعم، فقال: إلزمها فإن الجنة عند رجليها وفي رواية إني استكتبت في غزوة كذا- أي كتبت اسمي-. هذا عندما كان الجهاد فرض كفاية".
ولا شك أن هذه الفقرة فيها جرأة على الصحابة رضوان الله عليهم، واتهامهم بأنهم لم يكونوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أن الثابت أنهم كانوا يتحرزون من فعل أدنى شيء في أمور دينهم ومعيشتهم دون أن يعلموا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
كما تحمل الفقرة تناقضا عجيبا عن طريق لي عنق النص وجعل رأي النبي صلى الله عليه وسلم مجرد استشارة وليس استئذانا، وإلا لماذا جاء الصحابي إلى النبي يسأله؟ وهل يملك الصحابي مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ باعتبار أن الاستشارة تعطي الحق له في الاختيار بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين رأيه، لأن من طبيعة الاستشارة أنها غير ملزمة.
ومن تحريف كلام النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحريف كلام الله تعالى، فيقول:
"فأما إذا أصبح الجهاد فرض عين بعد الاستنفار فإن استئذان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح علامة نفاق، فقد جاء في محكم التنزيل : { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة:44]".
والسؤال هنا هل استئذان المنافقين في الآية هنا كان حول المشاركة في الجهاد أم التخلف عنه؟
يجيب الطبري عن ذلك بقوله:
" هذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين: أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب, فإنه لا يستأذنك في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه".