مادلين أولبرايت.. صاحبة دبلوماسية «الدبابيس» و«المشابك» فى مباغتة مفاوضيها
غيّب الموت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، أمس، عن عمر ناهز ٨٤ سنة. وتركت الراحلة إرثًا مهمًا من المؤلفات، أهمها كتاب «اقرأ دبابيسى: قصص من صندوق حلى دبلوماسية»، الذى صدر فى عام ٢٠٠٩ وتصدر محركات البحث بعد ساعات من الإعلان عن وفاتها بمرض السرطان.
ووصلت «أولبرايت» إلى الولايات المتحدة لاجئةً، فى عمر صغير وصعدت إلى أرقى مستويات السياسات الدولية حتى أصبحت أول امرأة تشغل منصب وزير الخارجية الأمريكية.
وصلت «أولبرايت» إلى الولايات المتحدة وعمرها ١١ سنة كلاجئة سياسية من تشيكوسلوفاكيا «جمهورية التشيك حاليًا»، متأثرة بالقمع النازى، وهى ابنة أسرة يهودية، ونجت بصعوبة من الإبادة على يد النازيين، وفرت إلى إنجلترا بعد وقت قصير من دخول دبابات هتلر إلى تشيكوسلوفاكيا فى عام ١٩٣٨، وبعدها درست العلوم السياسية فى جامعة ويليسلى، وتزوجت من وريث صحيفة ثرى، وأنشأت أسرة، وفى عام ١٩٧٦ حصلت على درجة الدكتوراه فى «القانون العام والحكومة» من جامعة كولومبيا.
اشتهرت «أولبرايت» بالدفاع ضد الفظائع الجماعية التى ارتكبت فى أوروبا الشرقية، حين شغلت منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ثم تبلور هذا النشاط بشكل واضح بعد أن صارت أول امرأة تشغل منصب وزيرة للخارجية الأمريكية.
واختارتها مجلة «تايم» الأمريكية ضمن قائمة أكثر المهاجرين الذين أثروا فى الولايات المتحدة.
وأثناء توليها هذا المنصب، استخدمت أداة غير تقليدية وفعالة فى إرسال الرسائل الدبلوماسية نيابة عن الشعب الأمريكى وهى: مشابك أو دبابيس «بروش» كانت تثبتها على صدر بدلتها خلال مختلف المناسبات، خلال سنوات خدمتها فى إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ثم أصبحت أداة لطيفة تعكس روح الدعابة التى غالبًا ما تكون مطلوبة فى المفاوضات، وشكلًا مختلفًا من أشكال التواصل لإرسال رسائل معينة للقادة السياسيين، كما كان «البروش» له دلالة سياسية تؤكد أنها تمثل صوت أمريكا فى الرد على الانتقادات.
وذكرت الصحفية الأمريكية لورين كولينز، فى تقرير نشرته صحيفة «نيويوركر» عن كتاب «أولبرايت»، أنها كانت مولعة بشكل جنونى باستخدام المجوهرات للتعبير عن نفسها، وكانت ترى أن هذا تكتيك وأسلوب فعال لإيصال الرسائل لخصومها، وأداة لكسر الجليد فى المفاوضات، مشيرة إلى أن الدبابيس التى كانت على شكل سلاحف أو زهور أو بالونات كانت لها تفسيرات خاصة بها.
وفى عرض آخر لكتاب «أولبرايت»، قال ديفيد ريفير ماكفادين، كبير أمناء متحف الفن والتصميم فى نيويورك، الذى استضاف معرضًا لمجموعة دبابيس الدبلوماسية الأمريكية البارزة، مع أكثر من ٢٠٠ صورة فوتوغرافية لتلك الدبابيس، إن «أولبرايت» كانت تستخدم تلك الدبابيس كأدوات لطيفة فى فن السياسة، لافتًا إلى أنها كانت تملك مجموعة دبابيس مصنوعة من الذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة اشترتها من مختلف الأسواق والمحلات حول العالم.
فيما وصفت الكاتبة الأمريكية لاسى جالبريث، فى تحليلها للكتاب، استخدام مادلين أولبرايت المجوهرات والدبابيس بـ«السلاح الدبلوماسى السرى» الذى كانت تستخدمه السياسية البارزة أثناء توليها مهام منصبها.
وشبهت ذلك بالمجوهرات التى كانت تحتل مكانة رمزية فى الشئون الدبلوماسية للإمبراطورية البريطانية، مضيفة: «لدى أول امرأة شغلت منصب وزير الخارجية فى الولايات المتحدة وجهات نظر متنوعة للسياسة الدولية، وكانت تلك المجوهرات والدبابيس الكلاسيكية جزءًا لا يتجزأ من ترسانتها الدبلوماسية الشخصية».
وتابعت فى عرضها للكتاب على موقع «Bookpage»: «خلال مسيرتها المهنية التى دامت عقدًا من الزمن كموظفة عامة، سافرت أولبرايت كثيرًا، وأصبحت الدبابيس- سواء التى اشترتها أو التى حصلت عليها كهدايا من الحكام والرؤساء- حديقة واسعة ومتنوعة مزجت فيها مذكراتها وحكاياتها وتاريخها فى عالم ملىء بالألوان، يحكى قصة ما وراء كل قطعة. كل دبوس هو متعة للنظر. تقدم قصة أولبرايت الرائعة نظرة رائعة ومرصعة بالجواهر على أمريكا وسياستها الخارجية خلال النصف الأخير من القرن العشرين».
ووفق عرض عن الكتاب نشرته صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأمريكية، قالت مادلين أولبرايت فى كتابها، إنها وضعت فى أحد لقاءاتها مع الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، فى عام ١٩٩٩، دبوسًا على شكل نحلة، فى إشارة لمثابرتها لساعات كثيرة لإقناع الرئيس الفلسطينى بأهمية التوصل لحلول سلمية للقضية الفلسطينية، وأضافت: «وضعت نحلة حين كنت أعتزم أن ألسع ياسر عرفات».
وأوضحت أولبرايت فى كتابها أن الأمر كله حدث مصادفة على يد الرئيس العراقى السابق صدام حسين، وقالت «أحب المجوهرات وأرتديها باستمرار، لكن لم يدر بخلدى قط أننى سأستغلها كأداة لنقل رسائل ضمنية حتى عُينت سفيرة لدى الأمم المتحدة، وبعد حرب الخليج الأولى، كنت أعقب على سياسات صدام حسين، وقلت عنه أشياء سيئة لكنه كان يستحقها، فوصفنى بأننى ثعبان لا مثيل له، ولتفادى الضربة، وضعت دبوسًا ذهبيًا على شكل ثعبان لحضور اجتماعى التالى بشأن العراق، ومنذ ذلك الحين أصبحت الحلى والدبابيس وسيلة للتعبير عن آرائى ومزاجى».
وذكرت أنها لجأت لسلاح «دبابيس الصدر» فى أكثر القضايا حساسية لدى الروس وهى قضية الشيشان، حين رافقت بيل كلينتون إلى القمة الأمريكية الروسية التى انعقدت فى يونيو ٢٠٠٠، حيث كانت تضع دبوس زينة يحمل أشكال ثلاثة قرود تشير إلى الحكمة الهندية الشهيرة «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم»، موضحة أنه حين سألها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عما يعنيه ما ترتديه، ردت أنها تصف سياسة روسيا حيال الشيشان، وأشارت إلى أن هذا الأمر أسعده كثيرًا.
ولفتت «أولبرايت» أيضًا فى كتابها إلى لقائها مع الرئيس السورى حافظ الأسد، حين وضعت دبوس صدر على شكل «أسد»، وقالت: «اسمه الأسد. لذلك ارتديت دبوس صدر على هيئة أسد. نظر إلىّ كأنه يدرك ما أردت قوله».
ونعى وفاتها الرئيس الأمريكى جو بايدن، قائلًا: «القوة التى كانت تتحلى بها أولبرايت غيرت مجرى التاريخ»، مشيرًا إلى أنها كانت «الأكثر التزامًا» فى الولايات المتحدة «فى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان».
وقالت كامالا هاريس، نائبة بايدن، فى نعى أولبرايت: «فقد العالم قائدًا لامعًا ومحبوبًا، حيث قدمت مادلين أولبرايت الكثير من حياتها للخدمة العامة وكانت تتمتع دائمًا بالذكاء والقوة والإيمان، وكانت الوزيرة أولبرايت مرشدة وصديقة وسأفتقدها».
وقال أوباما عبر تغريدة له على حسابه على تويتر: «كانت مادلين أولبرايت، وهى أول امرأة تعمل فى منصب كبير الدبلوماسيين الأمريكيين، مناصرة للقيم الديمقراطية».
فيما قالت نانسى بيلوسى فى تغريدة لها: «فقدنا بطلًا بارزًا من أجل السلام والدبلوماسية والديمقراطية، الوزيرة مادلين أولبرايت وبصفتها أول امرأة تشغل منصب كبير الدبلوماسيين، فقد مهدت الطريق لأجيال من النساء اللائى يعملن فى أعلى المستويات الحكومية ويمثلن أمتنا فى الخارج».
أما بيل كلينتون الرئيس الأمريكى الأسبق فقال فى بيان: «شعرت بالحزن عند سماع خبر وفاة مادلين أولبرايت، فهى واحدة من أرقى وزراء الخارجية، وسفيرة بارزة للأمم المتحدة وأستاذة بارعة».
فيما قال أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة: «من قاعات الأمم المتحدة إلى قيادتها لوزارة الخارجية والدعوة فى جميع أنحاء العالم، كانت مادلين أولبرايت رائدة ونموذجًا يحتذى به وداعية للعمل متعدد الأطراف والتعاون الدولى».
وأضاف: «تعتبر حياتها شهادة قوية على المساهمات القيّمة التى يقدمها اللاجئون إلى البلدان التى ترحب بهم».
ووصف «أولبرايت» بالصديقة العزيزة التى نال شرف العمل معها على مر السنين، فقد عمل جوتيريش مع مادلين أولبرايت فى مبادرة تركز على بناء تحالفات عالمية للقرن الحادى والعشرين.
وقال: «لطالما أذهلتنى مشورتها الحكيمة وخبرتها العميقة وآراؤها الفريدة وإنسانيتها الثابتة والدفء وسرعة البديهة».