كيف تكون القاهرة عام 2045؟.. تفاصيل رواية طارق إمام المرشحة لجائزة «البوكر»
يفتتح طارق إمام روايته "ماكيت القاهرة" الصادرة في 2021 عن منشورات المتوسط، والواصلة مؤخرًا إلى القائمة القصيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، بمشهد عجائبي، عن الطفل أوريجا الذي يلعب مع والده، فيصنع بيده ما يشبه مسدسًا، ويلصقه بجبهة أبيه ثم يتظاهر بإطلاق رصاصة وهو يصيح: "بوم".
إلى هنا والأمور تبدو عادية وودودة بين طفل وأبيه، إلا أن العجائبي يتحقق في السطر التالي، عندما نكتشف أن تلك الـ"بوم" قتلت الأب، لقد تحول مشهد محاكاة القتل، إلى عملية قتل حقيقية، ومات الأب.
بتلك الافتتاحية فوق الواقعية، سيدرك القارئ وهو مقبل على قراءة "ماكيت القاهرة"، أنه في مدخل عالم فوق واقعي، قد يتكئ على الواقع حينًا، لكنه يفعل ذلك كلاعبي رياضات الوثب الذين يرتكزون على الأرض ليحققوا أطول أو أعلى قفزة ممكنة في الفراغ، ليحطوا بعد ذلك في حقل من الرمال الناعمة أو على وسادة محشوة بمواد طرية قابلة لامتصاص الصدمات، مستهدفين كسر الأرقام القياسية والتتويج والظفر بميدالية، وهو الأمر الذي حققه طارق إمام ببراعة في روايته الأخيرة.
تسرد "ماكيت القاهرة" ثلاث قطع سردية، عن عائلة واحدة، من أب (بلياردو) وأم (نود) وابن (أوريجا)، من خلالهم يطرح إمام حكاية عن المدينة، والزمن، ويضخ في ثنايا تلك الحكاية الكثير من الجدليات والثنائيات الفلسفية.
ففي العام 2020 يقوم أوريجا بتصميم ماكيت للقاهرة، ماكيت بوسعه إنتاج شخوصه وتفاصيله، ومن بين تلك الشخوص تأتي نود، التي بدورها تقوم بتصوير ماكيت لقاهرة 2011، ومن بين شخوص هذا الماكيت الواقع داخل ماكيت آخر، سنرى بلياردو.
إنها بالضبط مثل دمية الـ"ماتريوشكا" الروسية التي هي عبارة عن دمية بداخلها دمية أصغر، وتلك الدمية الأصغر بداخلها دمية ثالثة أكثر صغرًا.. وعبر هذه الحكايات الثلاث، التي تقع على مسافات زمنية متباعدة نسبيًا: 2011، 2020، 2045، سيتمكن القارئ من رصد القاهرة، بتحولاتها وأسئلتها التي هي في الحقيقة أسئلة الحياة والوجود، مُحالة إلى هذه المدينة الرهيبة ذات الضجيج والزحام والزخم.
وليست القاهرة والأسئلة والثنائيات الفلسفية فقط هي العمود الفقري المشترك والممتد عبر الحكايات الثلاث، لأن شخصية "المسز"، صاحبة جاليري "شغل كايرو"، المركز الفني الذي أعلن عن مشروع تشييد ماكيت القاهرة، وهي الشخصية التي تعاصر الحكايات الثلاث، وتحضر فيها، وإن كان ذلك الحضور أيضًا يتم بشكل عجائبي، إذ يراها كل شخص حسب تصوره وبطريقته الخاصة وبمواصفات مختلفة، حتى وإن هابها الجميع وبجلها، وكأن المسز هي رمز لشيء أكبر مما يمكن أن تجسده مجرد شخصية لسيدة تدير مركزًا ثقافيًا وفنيًا، إذ يمكن تأويلها وتفسيرها بطرق مختلفة، فالمسز قد تكون هي الزمن، أو هي روح القاهرة المتوارثة عبر السنوات، إنها حضور أكبر وأكثر استفاضة من مجرد شخص عاصر الحكايات الثلاث، وكأنما هي المسافة الممتدة بين الأزل والأبد.
كما نجد أن العمل في الحقل الفني، هو عنصر مشترك آخر وممتد بين شخوص الرواية بأزمنتهم المختلفة، فبلياردوا هو رسام جرافيتي، ونود هي مصورة ومخرجة أفلام وثائقية، أم بلياردو فهو محترف في تصميم المصغرات. وكأنما أراد طارق إمام أن يمرر لنا عبر هذه اللمحة رأيًا يقول فيه إن الخلاص الحقيقي هو في الفن وبالفن، لأن العالم في الأساس مزحة ثقيلة، أو مكان أقسى من أن يُحتمل دون الفن.
أما على مستوى اللغة، فلا يمكن الإشارة – ومع كل عمل – إلى لغة طارق إمام المميزة والفريدة، التي تلعب على الدوام دور البطولة، أو على أقل تقدير تزاحم فيه، ففي بعض المساحات من السرد يمكن رصد تألق اللغة وانسيابيتها ونعومتها وجنوحها إلى الشعري كما لو كانت أكثر الأدوات الطيعة في يد الروائي، وفي مساحات أخرى، نراها تتجرد من ذلك وتميل للتقشف والتقريرية، والغريب هنا هو التحام هذا اللون بذاك دون أن يشعر القارئ بالخروج من البحر والدخول في النهر. هناك نعومة في التناوب، وعلى غرار الأدبيات السياسية التي تنص على أن هناك بلدان يحدث فيها – انتقال سلمي للسلطة – فإن "ماكيت القاهرة" تقدم انتقالًا سلميًا للغة، بشكل ناعم وهادئ يكاد يكون غير ملحوظ.
لقد نجح طارق إمام تمامًا - رغم ارتكازه على اسم كبير كالقاهرة – في خلق منطق داخلي لروايته، محقون بالفلسفة، مزدان بشخصيات عجائبية، معزول بشكل كبير عن الواقع، حتى أن له كتابه المقدس – الذي لا اسم له – لمؤلفه - الشخصية الروائية – منسي عجرم، فأنتج ماكيت للحياة، ومصغّرًا فنيًا للمصائر والأقدار، ثم راوغنا جميعًا بأن جعل القاهرة مركزًا لهذا الخيال الجامح.
ختامًا، تجدر الإشارة إلى أن الوصول للقائمة الطويلة من جائزة البوكر، لم يكن التكريم الأول الذي يحظى به طارق إمام، إذ سبق له أن حصد جائزة ساويرس مرات عدة، في حقلي القصة والرواية، كما فاز بجائزة الدولة التشجيعية، ووصل إلى القوائم الفائزة بجائزة متحف الكلمة للقصة القصيرة جدًا، وها هو يضيف إلى سجله الحافل، الوصول للقائمة القصيرة لأشهر جائزة عربية تُعنى بالرواية، ليصير الممثل الوحيد لمصر في المراحل النهائية من هذا المحفل الأدبي العربي.