د. جمال إبراهيم يكتب: الأخوة في الإسلام
الأخوة هي علاقةٌ قويّةٌ مُتبادلةٌ قائمةٌ على تقوى الله -سبحانه والإيمان به، وهي تُؤدّي بأطرافها إلى المَحبّة في الله -تعالى، بالإضافة إلى الحُبّ، والإخلاص، والوفاء، والثقة، والصدق، بعيداً عن السَّعي إلى تحقيق أيّ غرضٍ أو هدفٍ دُنيويٍّ.
رابطة الأخوّة الإسلاميّة رابطةٌ لا مثيل لها، ذات أثرٍ عميقٍ، بخِلاف غيرها من الروابط والعلاقات، وقد جعل الله سبحانه رابطة الأخوّة الإسلاميّة بين كلّ أفراد الأمّة؛ لذلك تفوّقتْ على كلّ الرّوابط الأخرى، فصهرتْ العصبيّات الأخرى في بَوْتَقتِها، لذا لن تجد أحدًا أحرص على مصلحتك ومنفعتك من أخيك، أو أختك، قال الله تعالى مجيبًا لطلب سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} يقول الإمام القشيري: سأل أن يصحب أخاه معه، ولما ذهب لسماع كلام الله حين قال تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» كان بمفرده، لأن الذهاب إلى الخلق يوجب الوحشة فطلب من أخيه الصحبة ليخفّف عليه كلفة المشقة .
ويقول السعدي في قله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} أي معينا يعاونني...وسأل أن يكون من أهله لأنه من باب البر وأحق ببر الإنسان قرابته ثم عينه بسؤاله فقال {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي قوني به وشد به ظهري قال الله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}، ولمكانة محبة الأخ في قلب أخيه لم تكلف أم موسى عليه السلام غير أخته في البحث عنه لأنها أحرص الناس على سلامته يقول السعدي: وَقَالَتِ أم موسى {لأخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اذهبي فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: أبصرته على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه، وهذا من تمام الحزم والحذر.
زاد القشيري: أمرت أمّ موسى أخته أن تتبع أثره، وتنظر إلى ماذا يئول أمره، فلمّا وجدوه واستمكن حبّه من قلوبهم طلبوا من يرضعه، ويقال إن المحبة توجب التجرّد والانفراد، وألا يكون للغير مع المحبّ مساغ ففي ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه، ولمّا كان الذهاب إلى ميقات ربه لم يكن للغير سبيل إلى صحبته إذ كان المقصود من ذهابه أن يكون مخصوصًا بحاله، وهذه أعظم أخوة في التاريخ فقد رفعت هارون لمقام النبوة، ولذلك كان موسى أنفع أخ لأخيه، وقال عن نبي الله يوسف عليه السلام: { وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يقول الإمام ابن كثير: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى يُوسُفَ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ شَقِيقُهُ بِنْيَامِينُ، فَأَدْخَلَهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ وَمَنْزِلَ ضِيَافَتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ الصِّلَةَ وَالْإِلْطَافَ وَالْإِحْسَانَ، وَاخْتَلَى بِأَخِيهِ فَأَطْلَعَهُ عَلَى شَأْنِهِ، وَمَا جَرَى لَهُ، وعَرّفه أَنَّهُ أَخُوهُ، وإذا كان هذا عن الأخ الشقيق فرسولنا يبين مكانة الأخوة في الله وحقوقها فيقول كما في الصحيح: المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ"، وبذلك فإنّ الأخوّة الإسلاميّة تُعدّ من أبرز مظاهر القوة والعزّة والمَنَعة،، ، ويرى أهل العلم أنّ رابطة الدّين أقوى من رابطة النَّسَب؛ لذا حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- عند إقامة الدّولة في المدينة المنورة بعد الهجرة على الأخوّة الإسلامية كرابط إيمانيٍ وثيق، يجتمع المسلمون تحت ظلاله الوارفة من شتّى أصولهم واختلاف منابتهم، وقد ظهر ذلك جليّاً بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وظلّت التّوجيهات الشرعية تُرسّخ هذا الفهم في مواقف كثيرة؛ ففي حجّة الوداع أكّد -عليه الصلاة والسلام- على الأخوة الإسلامية ومقتضياتها.
ومن هنا حرص الإسلام على التآخي، والتناصُح، والحفاظ على علاقة الأُخوّة الإسلاميّة بشتّى نواحيها؛ وذلك بأن يساعد المسلم أخاه في صلاح حاله، والتحلّي بالأخلاق الحَسنة؛ فلا يصحّ أن يترك المسلم مَن كان خُلُقه سيّئاً، أو مَن كانت فيه ما يكرهه من الصفات، بل عليه أن يأخذ بالأسباب، ويُغيّرَه إلى الأفضل.
كما عليه ألّا يتسبّب له بظلمٍ، ولا يؤذيَه في ماله، أو يأكله دون وجه حَقٍّ، ولا في عِرضه، وألّا يبيع على بَيعه، أو يخطِب على خِطبته، وألّا يغدر به أو يخونه، بل يُغيث الملهوف، ويساعد المحتاج، ويُطعم الجائع؛ عملاً بوصيّة النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (كُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا).
فالأخوة تحقق الوحدة والمَنَعة للمسلمين؛ عملاً بقول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ، لذلك أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- انّه قال: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ...ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه". اللهم اجعلنا وجميع المسلمين منهم. اللهم احفظ أخواتنا من كل سوء وشر واجمعنا بهم في مستقر رحمتك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- مدير عام بوزارة الأوقاف المصرية ومسؤول إدارة البحوث والفتوى في دائرة الشؤون الإسلامية الإمارتية.