الشاعر محمود قرني: احتجاج الشاعر هو البديل عن صمت الطبيعة
يشهد الواحد والعشرين من شهر مارس، بداية فصل الربيع، كما يشهد احتفال العالم بعيد الأم، وأيضا اليوم العالمي للشعر، والذي يحل غدا الأثنين، والذي كانت قد اعتمدته منظمة اليونسكو في العام 1999. وبالتزامن مع اليوم العلمي للشعر، قال الشاعر محمود قرني: "هل الشعر في أزمة ؟! إن الصعوبة التي تثيرها أسئلة من هذا النوع ليست صعوبة مرتبطة بطبيعة النص أو طبيعة لغته أو درجات تركيبه المعرفي ومن ثم غموضه، لكنها صعوبة أظنها ناتجة عن الخصام الذي يتسع بين المؤسسات التي ترعى النظام في هذا العالم وبين ما يطلبه الشاعر منها .
تابع "قرني" في تصريحات خاصة لــ"الدستور": لقد تعمقت تلك المسافة بتنامي الاعتقاد بأن واقعنا ليس إلا مجموعة "تتألف من أغلظ وأحط الأجزاء في هذا العالم"على ما يقول جون ويلكنز. يتعزز هذا التصور لدى شعراء لا يمكن إحصاؤهم، فـ "المتنبي" يقول: "أذم إلى هذا الزمان أهيله .. فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد"، ويقول "أبو العلاء المعري": "ولو نطق الزمان هجا أهله كأنه الروميُّ أو دِعبِلُ" . ويقول " كلبتشوك": لماذا أبدعت الكون، أيها الأوَّل، وقد كنتَ مكتفيا بذاتك ؟ .
إن مساحات السخط المتزايدة في خطابات الشعراء منذ القدم أُخِّذَت مأخذا مناهضا للناس، كأن الشاعر يعمل على تقويض الوجود في جملته، وهو تفسير ساهمت في ترويجه المؤسسات التقليدية في العالم انتصارا لتفوق القدماء حسب اعتقادهم، غير أن القراءة المنصفة هنا لا تعني أكثر من أن احتجاج الشاعر هو البديل عن صمت الطبيعة باعتبارها عنصرا لا يمكنه إلا أن يكون إلا محايدا .
وأضاف "قرني": وبطبيعة الحال فقد تعاظمت عزلة الشاعر مع المذاهب الحديثة وتعقيداتها، وهي جميعها نتاج حروب وصراعات مروعة تمثل ما هو أكبر من العار في تاريخ الإنسانية . الرومانتيكية كانت أول طريق العزلة المنظمة. عزلة النص وعزلة الشاعر . أما النص فقد حاول هدم النظرة التوحيدية للعالم بقصد إحلال النظرة المتعددة محلها. وأما الشاعر فلم يعد مطالبا بأن يكون مثالا أرضيا للصانع الأكبر، لذلك بدأ رحلة البحث عن ذاته وسط ذوات متنافرة في أغلب الأحايين.
من هنا سقطت أقانيم الوظيفة الشعرية وأصبح هناك من يؤلف المجلدات ويعد الأسفار عن الفن باعتباره لعبا، وتعاظم الاحتفاء بفكرة تشوش الحواس، كأن تشوش الحواس" هو الإرث الوحيد الذي تركه رامبو لأحفاده في منتجعاتهم الاستشفائية . كذلك أصبح فرويد محررا للشعراء بدلا من أن يكون سجينا لما أسماه "أوقيانوس اللاشعور".
سقوط الوظيفة الشعرية كان يعني إسقاط القارئ تحت شعارات أكثر من مجردة، وإن شئنا الدقة، أكثر من صفيقة. وبطبيعة الحال يضاف إلى تلك التعقيدات المزمنة موقف المؤسسات التقليدية بطبيعة تكوينها الذي يناهض كل جديد، وهو أخطر ما يواجه العالم اعتقادا بتفوق القدماء أيا كان موقعهم . وكما يقول "صامويل كلارك": فإن ما ليس معروفا لدى جميع الناس فليس مما يفتقر إليه أي منهم . يعني أن الناس صنائع معارفهم، وإذا سلمنا بأن وظيفة الشعر هي تحقيق اللذة وليس تحقيق الوضوح فإننا نعني بذلك أن الشعر ليس فنا من فنون البرهان، أي ليس فنا للتصديق قدر ما هو فن للتخييل، لكن التخييل عندما انغلق على ذوات هرمسية الطابع وتطهرية التوجه أنتج نصا معزولا أظنه أحد أبرز وجوه الأزمة .