100 ساعة مع إيزيس فى حضرة «حلوة الحلوات»
لا أصدق نفسى إلا حينما أجد دموعى وقد تدحرجت رغمًا عنى.. هذه الحالة لا تحدث معى بسهولة.. ونادرًا ما تحدث.. هذه المرة تكرر المشهد أكثر من مرة وفيما جاءت نوة عواصف مباغتة ونحن فى ساحة المعبد لم أنتبه لها.. ولم أنتبه أيضًا لذلك البرد الذى هجم علينا من الجبل فجأة.. تصورت أن هذه الدموع التى تدحرجت من عينى سببها ذلك البرد المفاجئ الذى لسع عيوننا وأجسادنا فارتعشنا.. لكنه لم يكن ذلك.. لم يكن الأمر كذلك.. هى الرعشة المحببة التى سببتها أنفاس أكثر من ثلاثة آلاف نفس رددت مع على الحجار رائعة بليغ حمدى «اللى بنى مصر.. كان فى الأصل حلوانى.. وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات».
هذه الجملة تحديدًا.. كانت مثار مداعبة بينى وبين المبدع الكبير الراحل سيد حجاب.. وكنت أقول إنها أقل كثيرًا مما يسبقها ويتلوها فى النص.. لكنى اكتشفت الآن أننى كنت مخطئًا وسيد حجاب وبليغ حمدى على حق.. هذه البساطة هى سر جمال هذه الأغنية.. وهى سر الأطفال الذين تسللوا من أسوار المعبد.. معبد أبيدوس ليشاركوا الحجار أغنيته.. هى سر أولئك النسوة اللاتى تسللن من شبابيك البيوت المطلة على مسرح المعبد.. سر أولئك الشباب الذين توافدوا من كل القرى المجاورة ليحتفلوا معنا.. ومع وزارتى السياحة والثقافة بإطلاق النسخة الأولى من مهرجان أبيدوس للموسيقى والغناء فى ساحة أقدم معبد فى التاريخ فى قلب القرية الأبعد فى محافظة سوهاج القرية التى كانت يومًا مقصدًا للحج فى مصر القديمة وعاصمة لدولتها.
مائة ساعة من البهجة عشتها فى «بلدى» حلوة الحلوات.. لم نخرج من القرية تقريبًا وعلى مدار الأيام الثلاثة لم ينم أى فرد من «وفد المهرجان» بدءًا من وزيرة الثقافة الفنانة إيناس عبدالدايم وحتى أصغر رجل شرطة جاء لتأمين «أيام المهرجان الأول من نوعه على هذه الأرض».
نعم هى المرة الأولى فى تاريخ مصر الحديثة الذى تقام فيه مهرجانات فى ساحة المعبد الذى شهد ولادة قصة العشق الأشهر فى العالم «إيزيس وأوزوريس».
لم يكن الأمر صدفة.. فمنذ شهور تم الاتفاق بين وزير الآثار خالد العنانى ووزيرة الثقافة بدعم من رئيس الوزراء مصطفى مدبولى على إتاحة وإنارة معظم متاحف ومعابد مصر للزائر الثقافى فى أبعد الأماكن، خاصة تلك التى حُرمت من أى بهجة منذ سنوات طويلة.. بدءًا من أبوسمبل مرورًا بالأقصر ثم دندرة فى محافظة قنا وأخيرًا أبيدوس فى سوهاج وفى القريب فى تل بسطا بمحافظة الشرقية ثم فى محافظات أخرى.
لم يشغلنى هذه المرة أن أدقق فيما يقدمه المطربون.. ولا الآلات الموسيقية التى اصطفت على خشبة المسرح فيما المعبد المهول تشرق أنواره الزرقاء فى سماء صعيدية جافة.. شغلتنى الفرجة على أولئك الذين تزاحموا بالآلاف لدرجة أزعجت القيادات الأمنية ومسئولى المحافظة لعدم قدرة المكان على استيعاب كل هذه الأعداد التى ترغب فى الحصول على حقها فى زاد ثقافى وإنسانى لم يكن متاحًا لها.. كان الجميع من سائق التوك توك وحتى كبار العمد والمشايخ يكررون للسادة الوزراء والفنانين.. «إحنا فرحانين إنكم كبرتونا وافتكرتونا وجيتوا».
هذه أبسط مفاهيم «العدالة الثقافية» تحدث ببساطة ودون مزايدة أو ادعاء.. دهشة النجوم مدحت صالح وهشام عباس وعلى الحجار كانت كبيرة أمام إلحاح «الجماهير» على البقاء لساعات فى عز «البرد» للاستماع والاستمتاع بهم وبإبداعهم رغبة غير محدودة.. ونهم غير عادى.. دفعت الفنانة إيناس عبدالدايم إلى أن تصرح لنا ولمرافقيها بأنها تتمنى أن تأتى لهؤلاء الناس كل يوم.. وأنها ستسعى لأن يصبح المهرجان «دوليًا».. وأن يقام عدد من معارض الكتب المصاحبة للمهرجان.. وأن يجىء نجوم آخرون.
بساطة الناس وتفاعلهم مع أغنيات النجوم الثلاثة.. على تباين الأذواق الموسيقية التى تخاطبها.. كان لافتًا ومدهشًا للجميع.. تفاوت أعمار الحضور ما بين مشايخ وشباب وأطفال أيضًا كان أمرًا فى غاية الدلالة على أن ذوق المصريين «بخير».. إصرار الجمهور وإجباره للحجار على غناء «الرحايا» وأعمال «عمر خيرت» وتكرار نفس الأمر مع مدحت صالح الذى كان فى حالة غير عادية من التألق وهو يغنى «يا قلبى يا عاشق» مثلًا أو «كوكب تانى».. رقص الجمهور الصعيدى من الشباب خلف المسرح على أنغام موسيقى أغنية «يا ليلة» المأخوذة تميمتها الشعبية من مواويل صعيدية قديمة جعلت الشوارع المحيطة بالمعبد وكأنها كتلة من إيقاعات الطبول الفرعونية القديمة.
لا تكفى هذه السطور قطعًا لشرح أحداث وتفاصيل مائة ساعة من الفن والثقافة والمتعة و«الإنسانية».. الإشارة الأهم أننا قادرون على البهجة وعلى الابتسام.. وعلى استعادة إنسانيتنا فى حضور وحضرة «حلوة الحلوات».