شاكر عبدالحميد
يوم ١٨ مارس الجارى يكون قد مر عام على رحيل الدكتور شاكر عبدالحميد الناقد والأستاذ الجامعى ووزير الثقافة الأسبق، وقبل كل هذا الصديق النبيل الذى زرع فى حياة كل من عرفه عن قرب حديقة عامرة بالبهجة والشجن والإخلاص والكرم، استقبلت خبر رحيله العام الماضى وأنا فى تونس، وعشت ليلتين حزينتين فى غرفتى فى الفندق أستعيد أيامنا معًا.
منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، تعرفت عليه أول مرة فى بيت الراحل الكبير محمد مستجاب، وخرجنا صديقين، تشعر بصلة قربى مع هذا الرجل الذى لم يُشاهد يغتاب أحدًا، ويمد يد العون للأرواح الهائمة فى الحياة الثقافية، يكون فى أحسن حالاته وهو وسط الصعاليك الذين يشكلون الهامش، أولئك الذين لا تعنيهم المكاسب الآنية، ولا يبحثون عن مناصب أو امتيازات، يكون على راحته تمامًا وهو يتنقل معهم من مكان إلى مكان، وبعد أن أصبح وزيرًا فى حكومة الدكتور كمال الجنزورى، انتقى مقهى فى شارع فيصل ليذهب إليه بعد العمل ليلتقى أصدقاءه الذين كان يلتقيهم فى المقاهى الصغيرة فى وسط البلد، كان يزورنى فى كل الشقق المتواضعة التى سكنتها، ومعظمها كانت فى أحياء شعبية، وكان يحب قريتى فى المنوفية ويفطر معى فى رمضان يومًا كل عام هناك، كان ناقدًا أمينًا، لا يلهث مثل كثيرين خلف الأسماء الكبيرة، تجده يناقش أعمال كتّاب ينشرون للمرة الأولى، يقرأ دراسة لا تقل عن عشرين صفحة أمام جمهور لا يزيد على عشرة أشخاص، كان يرى أن عليه مسئولية كبيرة، وهى التبشير بالوجوه الجديدة، لأنهم يشكلون عزوة له شخصيًا، كان حنونًا مع الشباب، لم يتورط فى فساد، ولم يخضع لابتزاز، سعادته بموهبة جديدة كانت لا توصف، هو صاحب وجهة نظر مختلفة فى النقد، كان يعتبر نفسه من جيل السبعينيات، وبدأ مسيرته النقدية فى مجلات الماستر التى كانت منتشرة آنذاك، دافع عن التجارب الجديدة وبحث فى جمالياتها، إلى أن اختاره أستاذه العالم الكبير الدكتور مصطفى سويف ليدرس معه الإبداع الأدبى من منظور علم النفس، لم يختلف الأستاذ داخل أسوار الجامعة عن الناقد فى الخارج، قدم إسهامات عظيمة فى الترجمة أيضًا، ونقل إلى العربية خمسة عشر كتابًا فى غاية الأهمية، بينها «بدايات علم النفس الحديث»، «الأسطورة والمعنى» لليفى ستروس، و«معجم المصطلحات الأساسية فى علم العلامات»، «الدراسة النفسية للأدب» لمارتن لنداور، و«ثلاثة أفكار مغرية» لجيروم كاجان، وكتاب «قبعة فيرمير: عن القرن السابع عشر وفجر العولمة». مؤلفاته الغزيرة لم تقتصر على الظواهر الأدبية فقط، لأنه كان مشغولًا بالصورة، وله فى هذا المجال كتب كثيرة أهمها: العملية الإبداعية فى فن التصوير، «التفضيل الجمالى: دراسة فى سيكولوجية التذوق الفنى»، الفكاهة والضحك، عصر الصورة «الإيجابيات والسلبيات»، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضى، «الغرابة»: «المفهوم وتجلياته فى الأدب»، وكانت سلسلة عالم المعرفة واسعة الانتشار تحتفى بكتاباته، مما جعل أعماله رغم تخصصها رائجة بين الشباب، وكان يؤمن بأن الثقافة ليست فقط شيئًا معنويًا أو عنصرًا محفزًا، لكنها صناعة مهمة يمكن أن تكون من عناصر الدخل القومى وكان ينادى دائمًا بتطوير ما يمكن تسميته الصناعات الثقافية.
شاكر عبدالحميد الذى ولد فى ديروط الشريف فى أسيوط سنة ١٩٥٢ كان مثقفًا موسوعيًا، يبحث عن إجابات عن أسئلة يسألها هو لنفسه، مثل: لماذا ينتحر المبدعون؟، ودرس الراحل حالات انتحار قامات فنية وفكرية بارزة مثل بيتهوفن والفرنسى جيل دلوز والألمانى فالتر بنيامين، والفيلسوفة الفرنسية سارة هوفمان، الرائدة فى كتابات الحركة النسوية، وأهم ما لاحظه أن الفلاسفة يقبلون على الانتحار فى سن متأخرة، على عكس الشعراء الذين ينتحرون مبكرًا، وكان يعتقد أن الانتحار سببه نقص هرمون الدوبامين المسبب للبهجة، وأنه لا توجد علاقة بين الانتحار والإبداع، ولكنه كتب كثيرًا على الرسام الشهير فان جوخ وانتحاره، عمل فى سلطنة عمان والإمارات والبحرين مسئولًا عن تنمية مهارات الموهوبين، وله إسهامات عظيمة فى هذا المجال، أهمها موسوعة «الطفولة والإبداع» فى خمسة أجزاء، وكان يرى أن تنمية مهارات الطفل هى السبيل الوحيد لاكتشاف العباقرة، من الصعب الإحاطة بمنجز الراحل العظيم الذى بذل عمره فى خدمة الثقافة والمثقفين، الرجل البسيط المتواضع العميق الذى لم يصدق محبوه بعد أنه رحل مثل هذه الأيام قبل عام.. ألف رحمة ونور.