زيزيت سالم تكتب: في "19 أغسطس" تأخذنا ضحى عاصي لأقدارٍ أخرى
"دائما ستوجد الشمس ودائما ستوجد السماء ودائما ستوجد ماما ودائما سأكون أنا"
هكذا كانت تتغنى كاملة في نزهتها على حافة نهر موسكو تحت ظلال أشجار الزيزفون على العشب الأخضر وعناقيد الأزاهير الصفراء برائحتها العطرة.
تبدأ رواية “19 أغسطس” بإهداء يحمل مضامين الأحداث في جملة واحدة: "إلى هؤلاء الذين أخذهم الحُلم لأقدارٍ أخرى"
حيث أفضى 19 أغسطس إلى أقدارٍ أخرى لمن كانوا يحلمون بالتغيير، فكل شئ قد تغير بعد هذا التاريخ، تغير البشر، تغيرت منظومة القيم، تغيرت مسارات الأحداث، وتغيرت معها حياة كاملة ورسلان، فحين تغير واقعهم، تغيرت أحلامهم وأساليب الوصول إليها، حتى من هاجر من روسيا إلى موطن الأحلام لم يجد سوى عكس ما كان يحلم به .
19 أغسطس كان يوم انقلاب المحافظين على جورباتشوف في الاتحاد السوفييتي لسياساته الجديدة، حيث وجد المحافظين هذه السياسات ليست في مصلحة البلاد، فنزلت الدبابات شورع موسكو انقلابا عليه، لكن الانقلاب فشل بعد ثلاثة أيام، ثم تم اعلان انهيار الاتحاد السوفييتي بعد ثلاثة أشهر واعلان دولة روسيا الاتحادية .
باعت كاملة تاريخها ومجدها ونياشين جدها بعد هذا اليوم حتى لا تجوع هي ورضيعها، حيث سافر رسلان إلى أفغانستان ولم يعد، فامتهنت تجارة الشنطة بين القاهرة وموسكو وقد آمنت بمقولتها الشهيرة: " لقد تقلصت الأديان ودمجت الآلهة في إله واحد هو الورقة الخضراء فئة المائة دولار" .
برعت الكاتبة في دمج خبرتها الحياتية بالتخييل عن طريق شخصية كاملة التي كانت تدرس الطب في روسيا ثم امتهنت العمل كمرشدة سياحية لدى عودتها إلى القاهرة
وقد تدرجت الرواية بين الراوي العليم وصوت عمر وصوت رسلان وصوت كاملة، بعد أن تركت الكاتبة لشخصياتها حرية التعبير عن أنفسهم، كما تركت لقلمها حرية التجول بين أنماط السرد المختلفة دون التقيد بتكنيك واحد .
والرواية زاخرة بتحولات تاريخية في العالم يصاحبها تحولات في شخصيات الرواية جسدتها الكاتبة ببراعة في حوارها مع صديقتها ايلينا أستاذة الباثولوجي وزميلتها في الدراسة التي اضطرت إلى البقاء في روسيا وعاشت التجربة بنفسها حتى تعافت ودفعت ثمن سلامها النفسي، حين قالت لها: أين سيهاجر شعب بأكمله؟ الشعب بقى وتحمل، ورغم أن الفترة كانت شديدة القسوة وسقط الكثيرون، لكن الأغلبية نجت من طوفان هدم القيم الذي تبع انهيار الدولة، فأمام الواقع لا توجد مشاعر ولا رأي، التغيير هو الحياة، هو الطبيعة، العالم كله يتغير" ص159
وتتعمق بنا الكاتبة في حياة كاملة ومعاصرتها للثورات 19 أغسطس و25 يناير، حيث في الأولى تحمل ابنها صادق رضيعا بدون زوجها رسلان وفي الثانية بصحبته وهو شابا يذكرها بنفسها وحماسها الذي أخذها لأقدارٍ أخرى لم تكن تتوقعها، وكأنها ممسوسة بلعنة كلعنة الفراعنة، الدبابات نفسها والفزع نفسه والحشود نفسها والدماء التي رأتها تسيل على الأرض، إذ تصور لنا الكاتبة الارهاب الذي طال معبد حتشبسوت وفندق غزالة وشرم الشيخ، وتربطه بالارهاب ذاته الذي ضرب روسيا وصربيا وأوكرانيا والشيشان وأفغانستان، وكأن الكاتبة تريد أن تؤكد لنا أن الارهاب لا دين له ولا وطن .
وقد توقفتُ بصفة شخصية أمام مشهد في الرواية حين ذكرت الكاتبة ما كان يحدث في مركز الايمان بمدينة نصر حيث مكان اقامتي، فقد كنت شاهدة على ما فعله الاخوان في تلك الفترة من واقعة فض تجمع رابعة من تمثيليات الموت الشهيرة والجثث المكدسة بالمسجد، والشباب الأجانب من مختلف الجنسيات المحتشدين حول المسجد مطلقي اللحى بجلاليبهم البيضاء .
وفي سرد غاية في الشجن كتبت ضحى عاصي عن الأحلام الضائعة في حكاية الصياد الذي احتار في عروس الأساطير التي اصطفته لتقع في شباكه، فهي ليست امرأة ليحبها ويتزوجها، وليست سمكة ليشويها ويأكلها، وكيف أنه بعد ساعات طويلة من التفكير احتضنها بكل محبة وحسرة ثم ألقى بها في البحر بمحض ارادته .
وقد فعلت كاملة كما فعل الصياد مع حلمه الذي أخذه لأقدارٍ أخرى، فعلتها مرتين، الأولى حين زارت أباها بعد طول غياب ورأته كأنه رجل آخر لا تعرفه، يشبه زوجته الجديدة صاحبة واحد من أشهر الصالونات الدينية، وبعد أن كان حلمها أن تلتقيه، اكتشفت أنها بالنسبة له من مخلفات العهد الزائل فتركته بمحض ارادتها ومضت .
والمرة الثانية حينما عاد إليها زوجها رسلان من الموت، معلنا قوة القدر الذي جمعهما بعد الشتات، لكنه عاد شخصا آخر، لم تدرِ وقتها كيف تراه؟ أتراه كحبيها العاشق؟ أم كخائنا لوطنه؟ أم هو أبو حمزة الوليد الارهابي العالمي الذي تبحث عنه كافة الجهات الأمنية؟ ورغم شخصيتها الصارمة واستبدادها مع موظفيها حين كانت اجابتها الوحيدة على استيائهم: "إن الحرية مثل الأكسجين، الكثير منها يؤدي إلى التسمم" ص96، لكن حين تكشَّف لها وجه رسلان القبيح وكبلها واستعبدها في بيتها واستعبد عواطفها، طاردها الخوف منه كالكابوس، وتمنت هذه الحرية التي سخرت منها، فتحررت منه وتركته بمحض ارادتها غير نادمة .
أما رسلان الذي كان يتباهى بدفاعه عن الحرية بحكايات تمرده حينما حطم تمثال لينين المصنوع من الجبس، فقد أخذه حلمه إلى أقدارٍ أخرى بررها لوالده بقوله: "كلنا في الأصل قتلة يا أبي، فقط هذبنا قليل من الحضارة والأديان والقوانين، ولكن عندما نجعل مبررنا للقتل أنه من أجل الفضيلة أو الأخلاق أو العدل أو الخلافة الاسلامية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من حكم العالم، وقتها تتحرك طبيعتنا بمنتهى الأريحية ودون أدنى شعور بالذنب" ص211.
وفي النهاية، وعلى صوت المعزوفات الروسية الشعبية بألوان العلم الروسي الأبيض والأزرق والأحمر في متتالية من البهجة، غنت كاملة مع الملايين في الشوارع أغنية النصر بصحبة ابنها صادق وهي تفكر، هل من حق ابنها أن يعرف من هو أبوه أم من مصلحته ألا يعرف؟.