«إخناتون غبار النور».. إبداع مستلهم من تاريخ لا نلتفت لأهميته
قدمت فرقة الرقص المسرحى الحديث بدار الأوبرا المصرية مؤخرًا عرضها اللافت «إخناتون غبار النور» فى افتتاح مهرجان ربيع الثقافة بدولة البحرين، لتكون خير ممثل للفن المصرى، حيث شهد العرض لفيفًا من الدبلوماسيين والمهتمين بفنون الأوبرا والمسرح الراقص تتقدمهم الشيخة مى بنت محمد آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، وقد احتفى الحضور بكفاءة العرض، وذلك بالوقوف والتصفيق الحار عدة دقائق، أدهشت مخرج الفرقة وليد عونى، وفريق العمل معه.
العرض يناقش بوعى فارق فكرة الدمار الذى يلحق بالبشرية نتيجة الحروب والثورات وكيفيات تأثيرها على حياة الناس، ويبدأ من الحاضر حيث هجرة بعض العباد المشردين غير محددى الهوية من بلادهم، فهناك فى الخلفية أصوات تلاطم الأمواج، والاستعداد السريع للسفر لوجهة غير معروفة، ورويدًا رويدًا يكشف العمل عن علاقته بإخناتون الملك المصرى الذى نادى بديانة التوحيد، وأنشأ مدينة جديدة فى تل العمارنة، كى يحكم من هناك، إذ ضج فى المدينة القديمة بعبادة آمون، وعانى كثيرًا من كهنته المتسلطين الخونة.
الحدث الجديد جاء بناءً على تدمير المدن الآمنة، وارتحال أهلها مرغمين، وفى زمن إخناتون كان الكهنة قد خربوا المدينة التى تنادى بديانة آتون إله الشمس، وأعادوا الناس بالعنف لديانة آمون، هكذا وجد مصمم ومخرج فرقة الأوبرا للرقص المسرحى الحديث وليد عونى ربطًا مهمًا بين الحدثين، مر من خلاله لموضوع عرضه الذى يحتفى بالإنسانية والرضا والروح السمحة المحبة للشمس والنور، فى مقابل الأطماع غير المبررة والظلم السافر والتدمير فى سبيل مكاسب رخيصة، يأتى إلينا صوت إخناتون الذى ينادى إله الشمس، ويكتب الشعر فى حبه معبرًا عن أسمى معانى العرفان والتبجيل لذلك الذى يمنح الحياة للناس، ويشعرهم بدفئه وقدرته على بث الطمأنينة فى كل الكائنات الحية.
فى بعض المشاهد تظهر الشمس فى البانوراما الخلفية لخشبة المسرح ساطعة، تبث نورها الملون، وهو ما يعنى الاحتفال والعمل وتجاذب أطراف الحديث والرقص السعيد أيضًا، وفى مشاهد أخرى يعم الظلام وتسود الفوضى على خشبة المسرح للتذكير بالراهن الموحش الفوضوى، فالمعادلة واضحة فى عرض النموذجين، وهذه مسألة يمكن لأى متلقٍ أن يلحظها، فالعرض لا يركن للغموض بأى حال من الأحوال، فالرسالة واضحة، وتسلسل التيمات والأحداث كان مبنيًا بالمنطق الذى يجعله سهل الوصول للمتلقى المهتم، تسود فى ذلك التكوين الذكى أزياء لافتة صنعت بعناية كبيرة وديكور بسيط يسمح للراقصين بامتلاك خشبة المسرح دون إعاقة، وكان عنصر الإضاءة واحدًا من أهم عناصر العرض، إذ تميز بالألوان المناسبة لطبيعة المشاهد، وجاء أداء الراقصين معبرًا بقوة عن قدراتهم البدنية الفائقة، سواء فى المشاهد الجماعية حيث انتظام الشكل الجماعى فى إنتاج معنى، أو فى المشاهد التى تجمع عددًا محدودًا من الراقصين، حيث تظهر المهارة الكبيرة فى الحركات الصعبة المؤثرة.
لم يكن العمل ومحتواه غريبًا على طريقة وليد عونى فى بناء عروضه الراقصة، فعادة ما يتحرك الرجل من محطة إنسانية قوية، كأن يسمى عمله بواحد من أعلام الفن والثقافة المصريين، مثل تحية حليم أو شادى عبدالسلام أو محمود مختار أو قاسم أمين، ويدير المشاهد وفق التحلق حول أعماله ومنجزه على الأرض، فقط هنا كانت المناسبة فى ذلك العرض واضحة، حيث هجرة الناس من أوطانهم من جراء الحروب والثورات والديكتاتورية، وظنى أنه هنا قد بدأ من الصور المفزعة للشعب السورى المهاجر عبر البحر.
نظام ليالى العرض بالأوبرا يظلم العروض الجيدة
ولقد كان هذا النجاح الكبير والاحتفاء الذى حدث حال تقديم العرض فى مهرجان الربيع بالبحرين هو فى رأيى إشارة لما يجب أن يكون عليه الفن المصرى خارج حدود مصر، كمصدر للقوة الناعمة، حين يكون محملًا برسالة واضحة ومعبرًا حقيقيًا عن شعبنا الذى يميل بفطرته للسلام فى مجابهة القضايا الاجتماعية والسياسية الراهنة، وفى رؤيته للأثر السلبى للحروب والأنظمة الديكتاتورية، فقد استطاع وليد عونى الفنان الجاد صاحب الرسالة أن يغوص فى قلب الماضى، ليفتش عن تاريخنا المشرف فى سبيل إحياء تعاليم الإله عن ضرورة الحب والسلام والرضا والطمأنينة.
قُدم عرض «إخناتون» لأول مرة على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة منذ عامين لعدد محدود للغاية من الليالى، وحسب ما أفهم فإن المعادلة بذلك تكون خسرانة اقتصاديًا وفنيًا لا محالة، فكيف لعرض بهذه التكلفة المهولة أن يعوض حتى نصف أو حتى ربع الإنتاج؟ أنا لا أطمح لتحقيق المكسب، وإن كان ذلك مرجوًا فى المستقبل بالطبع، لكن على أقل تقدير كان يرجى أن يتاح العرض لعدد معقول من الليالى، حتى يشاهده الجمهور المهتم.
أعتقد أنه علينا أن نراجع تلك اللوائح بدار الأوبرا، بما يسمح لتلك العروض أن تعرض على مدى «سيزون»، فتأخذ فرصتها فى تطوير نفسها، وتحظى بقدر لائق من الحضور والمشاهدة الجماهيرية حتى لا يبدو الأمر وكأننا نحارب عروضنا، ولا نسعى لنجاحها، بل نسعى جاهدين لتقليص الاهتمام بها.