جمال عبدالناصر: فلسفة الثورة «2-2»
رأينا كيف كان كتاب فلسفة الثورة بمثابة استشراف لمستقبل مصر مع ٢٣ يوليو، أو كما وصفه جمال عبدالناصر «دورية استكشاف» لقادم الأيام. وبيَّنا فى الجزء الأول من المقال إجابة عبدالناصر عن السؤال التقليدى: لماذا تحرك الجيش وقام بحركته فى ٢٣ يوليو؟ كما أوضح عبدالناصر رأيه فى الصراع بين الأحزاب، وضرورة توحيد الصف، ومن هنا اللجوء إلى سياسة الحزب الواحد، حيث حاول تبرير ذلك قائلاً: «كنا فى حاجة إلى الاتحاد، فلم نجد وراءنا إلا الخلاف، وكنا فى حاجة إلى العمل، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل».
وبصرف النظر عن تقييمنا الآن بعد سبعين عامًا من يوليو ١٩٥٢، فإن ما قاله عبدالناصر كان يُشكِّل وجهة نظر قطاع لا بأس به من جماهير هذه المرحلة.
الأمر الآخر شديد الأهمية الذى طرحه عبدالناصر فى فلسفة الثورة، هو رسم أبعاد السياسة الخارجية المصرية للمرحلة الجديدة. ويوضح عبدالناصر جليًا أن المكان والزمان يفرضا علينا أبعاد هذه السياسة الخارجية: «أجلس أحيانًا فى غرفة مكتبى وأسرح بخواطرى فى نفس هذا الموضوع وأسأل نفسى، ما هو دورنا الإيجابى فى هذا العالم المضطرب، وأين هو المكان الذى يجب أن نقوم فيه بهذا الدور؟.. لا نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم هذا المكان».
وعلى هذا تطرح فلسفة الثورة نظرية «الدوائر الثلاث» للسياسة الخارجية «الناصرية». والجديد هنا هو البدء بما أطلق عليه «الدائرة العربية»: «أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلًا وليس مجرد كلام».
صحيح أن بدايات انخراط مصر فى السياسة العربية بدأت فى العصر الملكى، لا سيما مع أحداث فلسطين فى عام ١٩٣٦، ثم حرب ١٩٤٨ وإنشاء الجامعة العربية، وهو ما أطلق عليه المفكر محمد جابر الأنصارى «تعريب مصر سياسيًا»، بعد سياسة «القومية المصرية» التى كانت ترفض انخراط مصر شرقًا، لأن فى ذلك من وجهة نظرهم توريطًا لمصر فى مشاكل المشرق العربى. إذن ومع عبدالناصر سيحدث التحول الكبير وتصبح الدائرة العربية هى المجال الاستراتيجى الأول للسياسة الخارجية.
الدائرة الثانية هى «الدائرة الإفريقية»: «أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية، شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضًا أن يكون فيها اليوم صراع مروِّع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره علينا سواء أردنا أو لم نُرِد».
وبالقطع هناك ارتباط إفريقى لمصر، ربما منذ عصور الفراعنة، وصولًا إلى دخول محمد على إلى السودان، مرورًا بالإمبراطورية المصرية الإفريقية فى عصر إسماعيل، وهى سياسة من أجل حماية منابع النيل، لكن عبدالناصر يوسع بشكل كبير من أفق البُعد الإفريقى فى السياسة الخارجية «الناصرية».
الدائرة الثالثة فى ترتيب أولويات السياسة الخارجية هى «الدائرة الإسلامية»: «أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالمًا إسلاميًا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ».
هذا كتاب لا بُد أن يُقرأ بعناية، عندما نحاول إعادة قراءة تاريخ يوليو.