لماذا؟.. وماذا؟
«في أوائل عام 2000، أصبحت أول مسئول أمريكي رفيع المستوى، يجتمع مع فلاديمير بوتين.. لم نكن نعرف، كإدارة لكلينتون، الكثير عنه في ذلك الوقت.. فقط أنه بدأ حياته المهنية في وكالة المخابرات الروسية K.G.B.. كنت آمل أن يساعدني الاجتماع على اكتشاف شخصية هذا الرجل، وتقييم ما قد يعنيه رفعه المفاجئ للعلاقات الأمريكية الروسية، التي كانت قد تدهورت في خضم الحرب في الشيشان.. وبالجلوس على طاولة صغيرة معه في الكرملين، أذهلني على الفور التناقض بينه وسلفه بوريس يلتسين.. ففي حين أن يلتسين كان متملقًا، فإن بوتين تحدث بطريقة غير عاطفية، ودون مواربة عن تصميمه على إحياء الاقتصاد الروسي وسحق المتمردين الشيشان.. كان يحلم بالعودة إلى الوطن القديم.. سجلت انطباعاتي وقتها: (بوتين صغير وشاحب، وبارد).. قال إنه يتفهم سبب سقوط جدار برلين، ولكنه لم يتوقع انهيار الاتحاد السوفييتي بأكمله.. كان بوتين يشعر بالحرج مما حصل لبلاده، ومصمم على استعادة مجدها».. هذا ملخص ما كتبته مادلين أولبرايت، التي تولت منصب وزيرة الخارجية الأمريكية عام 1997، في مقال لها بصحيفة الواشنطن بوست، يوم 23 فبراير الماضي.. تعقيبًا على الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
في ديسمبر الماضي، قدمت روسيا إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مطالب، تضمنت دعوات لمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو وإزالة كل البنية التحتية العسكرية التي وضعها الحلف في أوروبا الشرقية منذ 1997.. لقد كانت فخًا للغرب، ومن شأنه أن يؤدي إلى زيادة العقوبات على روسيا.. وسوف يستخدم بوتن الرفض الصريح لمطالب موسكو، كدليل على أن معارضي روسيا رفضوا الدبلوماسية، وأنه لم يكن أمامه خيار.. ومع تكثيف الحشد العسكري الروسي، رد حلف شمال الأطلسي بإرسال آلاف الجنود إلى أوروبا الشرقية، وتزويد أوكرانيا بالأسلحة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات.. وقد قدم بوتن هذا أيضًا كدليل على النية الغربية العدوانية.
لقد رأت الولايات المتحدة ما هو قادم، حتى لو لم تكن متأكدة من حجم الهجوم الروسي الذي يلوح في الأفق.. وقال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مرارًا وتكرارًا، إن روسيا تتبع نفس (كتاب اللعب) العسكري والدعائي الذي استخدمته قبل الاستيلاء على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014.. لكن التهديدات بفرض عقوبات ضخمة وغير مسبوقة، أثبتت عدم فعاليتها ضد بلد عاش بالفعل مع العقوبات لسنوات، وتراكمت لديه احتياطيات من الذهب والعملات الأجنبية بقيمة 635 مليار دولار، وتزويده بثلث الغاز الروسي لأوروبا.. وانطلقت الحرب.. وهنا يأتي السؤال: هل الحفاظ على الأمن القومي الروسي وحده، كان وراء قرار الحرب؟.. وما الذي رآه بوتين من الغرب، حتى يقوم بهذا الاجتياح، غير عابئ بالنتائج؟
عندما بدأت القوات العسكرية الروسية التحرك في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، بعد أوامر الرئيس بوتين ليلة الاثنين قبل الماضي بشن الهجوم، فإن روسيا بدأت تستعيد جائزة غابت عنها منذ فترة طويلة: إقليم دونباس.. فلا تزال الثروة المعدنية للمنطقة، هي نفس الجائزة الاستراتيجية التي اعترف بها أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية.. فأوكرانيا، ولا سيما دونباس، تتصدر أوروبا في احتياطيات مؤكدة من ركائز اليورانيوم، لتحتل المرتبة السابعة في العالم.. وتحتل المرتبة الثانية في احتياطيات ركائز التيتانيوم في أوروبا، والثانية في جميع أنحاء العالم في الاحتياطيات المستكشفة من خامات المنجنيز، والثانية في أوروبا من حيث احتياطيات ركائز الزئبق.
إن السيطرة على دونباس، ناهيك عن أوكرانيا بالكامل، من شأنه أن يزيد من تعزيز نفوذ بوتن على أوروبا، وهو ما يشكل قوة لقبضته على خط أنابيب (نورد ستريم 2) والغاز الطبيعي الروسي الذي تعتمد عليه أوروبا.. ويمكن لموارد المنطقة أن تضيف المزيد إلى الاقتصاد الروسي، الذي كان يتطلع عام 2021 إلى الوقود والطاقة والصلب للحصول على 65% من صادراته، التي تمثل أكثر من 25% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، و36% من إجمالي ميزانية البلاد.. وفي بيئة تؤدي فيها تحركات روسيا العسكرية نفسها إلى رفع قيمة صادراتها من الطاقة والصلب وغيرها من الموارد، فإن الاستحواذ على دونباس، لن يكون سوى شريحة دسمة واحدة من جائزة أكبر.
باختصار، فإن دونباس، هو حوض الفحم دونتس.. واحدة من أكبر مناطق التعدين في أوروبا.. وتغطي احتياطيات الفحم تحت سهولها المتدحرجة حوالي 23 كيلومترًا مربعًا جنوب نهر دونتس.. ومع صعوبة محاولة الوصول إلى التقديرات المعاصرة لكمية الفحم داخل دونباس، فقد بلغ إنتاجها ذروته في سبعينيات القرن الماضي نحو مائتي مليون طن.. وسوف تستطيع روسيا بهذا الفحم، وغيره في مناجم المنطقة، تنفيذ الاتفاق الذى أعلنته موسكو عن تزويد الصين بمائة مليون طن من الصخر الأسود خلال السنوات القادمة.. وهنا يقول روبرت ويلكي، وكيل وزارة الدفاع لشئون الأفراد والاستعداد في إدارة ترامب، إن الصين ستلعب دورًا في تخفيف أي عقوبات على روسيا، وستعمل كممول وداعم للتصدير لبوتين في مواجهة الإجراءات الغربية.. وبإضافة الصفقة التي تم توقيعها مع الهند في نوفمبر 2021 لتوريد أربعين مليون طن من الفحم، فإن الأرض تحت أوكرانيا تصبح أكثر جاذبية لروسيا.. وتنضم إلى رواسب الفحم في دونباس، احتياطيات كبيرة من غاز الميثان، وخامات الحديد، إذ، مثل إنتاج الصلب الأوكراني عام 1990، 17% من الإنتاج الهائل للاتحاد السوفييتي، وتصنف أوكرانيا كخامس أكبر احتياطي لخام الحديد في العالم.
إلى جانب هذه الإغراءات الاقتصادية، ومتطلبات الأمن القومي الروسي، في مواجهة الناتو، فإن هناك أسبابًا، شجعت بوتين على اجتياح أوكرانيا.. فقد كرر الرئيس الأمريكي جو بايدن مرارًا، تأكيده عدم إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا لمواجهة ما وصفه بـ(الغزو الروسي).. في تقرير لموقع الإذاعة البريطانية، كان السبب الأول، هو أن أوكرانيا ليست جارة للولايات المتحدة، وليست فيها قاعدة عسكرية أمريكية، ولا توجد فيها احتياطات استراتيجية من البترول، كما أنها ليست شريكًا تجاريًا رئيسيًا، ومن ثم فإنه لا مصالح مشتركة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، حتى تتحرك واشنطن للدفاع عنها وحمايتها.. ويكمن السبب الثاني في غريزة الرئيس بايدن القائمة على (عدم التدخل عسكريًا)، رغم أنه دعم العمل العسكري لبلاده خلال تسعينيات القرن الماضي، للتعامل مع الصراع في البلقان، كما صوّت لصالح الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ولكنه منذ ذاك التاريخ أصبح أكثر حرصًا في استخدام القوة العسكرية الأمريكية.. وقد بدا ذلك واضحًا في الدفاع عن قراره بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان العام الماضي، على الرغم من الفوضى التي رافقته، والكارثة الإنسانية التي نجمت عن ذلك.
السبب الثالث هو أن استطلاعات للرأي كشفت عن أن 72% من الأمريكيين أكدوا أن بلادهم يجب أن تلعب دورًا (محدودًا) في الصراع الروسيـ الأوكراني، أو لا تتدخل مطلقًا، حتى إن الأصوات المتشددة في الحزب الجمهوري، لا تريد من بايدن إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا و(بدء حرب مع بوتين).. السبب الرابع، هو أن روسيا قوة نووية عظمى، وينطوي الدخول في مواجهة مباشرة معها على مخاطر جسيمة للعالم كله، قد تؤدي إلى إشعال حرب عالمية.. (الأمر ليس وكأننا نتعامل مع منظمة إرهابية، نحن نتعامل مع واحد من أكبر الجيوش في العالم.. هذا وضع صعب للغاية ويمكن أن تسوء الأمور بسرعة جنونية)، هكذا قال بايدن.. أما السبب الخامس، فهو المادة الخامسة من اتفاقية الناتو، التي تلزم جميع الأعضاء بالدفاع عن بعضهم بعضًا، ولذلك ليس هناك ما يلزم أمريكا بالتدخل للدفاع عن أوكرانيا لأنها ليست عضوًا.. وقد أشار بايدن إلى هذه المادة، حين قال: (إذا انتقل الهجوم العسكري الروسي إلى دول الناتو، سنتحرك).. وهكذا، وجد الرئيس الأوكراني نفسه وحيدًا في ميدان المعركة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.