دوافع التحقيق مع طه حسين
تعرض عميد الأدب العربي الحديث الدكتور طه حسين، لمحنة قاسية عام 1927 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي " وأحيل الرجل للتحقيق أمام النيابة العامة. وفي النهاية حفظت النيابة العامة التحقيق. ودخل المستشار محمد نور رئيس النيابة العامة الذي قام بحفظ التحقيق التاريخ، باعتباره صاحب قرار الحفظ لأشهر قضية ثقافية في تلك الفترة.
غير أن الأمر لم يكن كذلك. ولم يكن محمد نور رجل قضاء مستنير. ولكنه يمكن أن نطلق عليه رجل قضاء محترف. لأن قرار الحفظ أملي عليه.
البداية كانت في عام 1927عندما تقدم الشيخ حسنين، الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف بشكواه إلى النائب العمومي مباشرة، ضد الدكتور طه حسين الأديب المعروف وأستاذ الجامعة، بأنه ألف ونشر كتابا «في الشعر الجاهلي»، وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم، حيث نسب إليه الخرافة والكذب.
كما تقدم أيضا عضو مجلس النواب عبد الحميد البنان أفندي ببلاغ إلى شيخ الأزهر، ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين نشر وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية، كتابا فيه طعن وتعد على الدين الإسلامي.
على الفور أرسل شيخ الأزهر إلى النيابة العمومية تقريرا عن كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي مرفوع إليه من بعض علماء الأزهر الشريف.
وبعدها استدعت النيابة العمومية الدكتور طه حسين للتحقيق أمامها.
ومع الخوف من نتيجة التحقيق وتأثيرها على مستقبل طه حسين، تلقي الدكتور طه حسين نصيحة من هيئة الدفاع عنه، بألا يجيب على أي سؤال للنيابة، وأن تكون إجابته دائما، لا أعرف. وهي النصيحة التي سار عليه الدكتور طه حسين في أول التحقيق. لكن طه حسين أحس أن كرامته كأستاذ في الجامعة، ومكانته العلمية لا تسمحان له بأن يقف صامتا أمام محقق قرأ كتابه جيدا، واستعان بمراجع علمية قبل أن يبدأ التحقيق، وواجهه باتهامات تحط من أستاذيته وتتهمه بعدم الدقة. ولم يجد طه حسين مفرا من الإجابة عن الأسئلة التي تقلل من شأنه كباحث.
كان المحقق الأستاذ محمد نور رئيس النيابة عنيفا أثناء التحقيق مع الدكتور طه حسين. وفند كتاب في الشعر الجاهلي، واتهم الدكتور طه حسين بالتناقض وعدم دقة البحث.
في تلك الفترة كان هناك نزاع سياسي بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين، الذي ينتمي إليه الدكتور طه حسين، وكان عدلي يكن، رئيس حزب الأحرار الدستوريين هو رئيس الوزراء، وكان سعد زغلول رئيس حزب الوفد رئيسا لمجلس النواب، وقاد النائب عبد الحميد البنان نائب حي الجمالية ثورة نواب البرلمان داخل المجلس مطالبين بضرورة محاكمة طه حسين.
وتصاعدت الأزمة، وعندما هدد رئيس مجلس النواب سعد زغلول صراحة، بطرح الثقة بالوزارة، إذا ما تقدم المجلس بطلب للنائب العام بالتحقيق في الكتاب الذي ألفه طه حسين، ثم تواصلت الاجتماعات في بيت الأمة بين سعد زغلول وعدلي يكن، وتم الاتفاق على أن يتقدم النائب بشكوى شخصية للنيابة العامة، وأن تحقق النيابة في الموضوع وبعدها يحفظ التحقيق حفاظا على الائتلاف الوزاري.
أي أن الأمر لم يكن حفاظا على حرية الرأي والتعبير، ولكنها كانت صفقة اتفق عليها الطرفان، حتى لا ينهار البنيان الوزاري.
تم حفظ التحقيق. وجاء في قرار الحفظ «وحيث إنه مما تقدم يتّضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواقع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي، لاعتقاده أن بحثه يقتضيها. بناء على ذلك ينتفي القصد الجنائي وتحفظ الأوراق إداريا».
ورغم وقوف النيابة العامة في قرارها إلى جانبه، إلا أن طه حسين بكبريائه المعروفة قدم استقالته من الجامعة احتجاجاً على بعض الألفاظ التي وردت في قرار النيابة. والتي اعتبرها طه حسين ماسة بكرامته العلميّة. واكتفت الجامعة بأن اشترت من السوق النسخ التي كانت معروضة.
وتري السيدة سوزان زوجة الدكتور طه حسين: «أن ما حدث له أرهقه. ولم يكن الدكتور طه حسين قادرا على فهم هذه الأحكام البليدة، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي اقتياده إلى النيابة، بعد أن قاموا بحملات قاسية في الصحافة، والشتائم والتهديد بالقتل، وإقامة حراسة على مدخل بيتنا، عدة أشهر. كانت تلك الأحداث تؤلمه كثيرا. وخلال هذه المحنة القاسية، ظل بعض الأصدقاء أوفياء لطه حسين، ولم يبخلوا عليه بدعمهم المعنوي ولا بتضامنهم الصريح والواضح، بين هؤلاء لطفي السيد الذي تتحدث عنه السيدة سوزان بكل احترام ومحبة ».
وبسبب أفكاره التحررية عوقب طه حسين وتعرض لمحنة ثانية في ربيع عام 1932. فقد فصل من عمله كأستاذ بالجامعة بسبب أفكاره ومواقفه التحررية. لم يكتفِ أعداؤه في هذه المرة بطرده من الكلية التي يحاضر فيها، وإنما أرادوا أيضا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبإنذار الهيئات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضا للعمل». دامت هذه المحنة الجديدة حتى عام 1934.
وكانت المقاطعة تامة من جانب أغلب المؤسسات الجامعية والصحافية. وحدها الجامعة الأمريكية تجرأت ودعت طه حسين لإلقاء بعض المحاضرات التي لاقت إعجاب الشباب المتحمس لأفكاره.