الخيط الرفيع ما بين الواقع والخيال في "الببلوماني الأخير" لشريف عبد المجيد
لم يكن إطلاق الناقد الراحل دكتور جابر عصفور مقولته "زمن الرواية" في نهايات القرن المنصرم، علي عواهنه فقد كان كتابه الذي حمل عنوان مقولته إثر ما رصده من بزوغ نجم الرواية جنسا طاغيا علي بقية الأجناس الأدبية، سواء من جهة إقبال القراء عليها أو زيادة المطروح والمؤلف منها مقارنة بغيرها من الأجناس الأدبية.
إلا أن فن القصة القصيرة مازال له مريدوه سواء من القابضين علي جمره أو المتذوقين لهذا الفن الأدبي الذي يكثف اللغة والمشاهد، يختزل مئات الكلمات التي يحتاجها وصف موقف ما أو حتي شخصية إلي عبارات قصيرة دالة تختصر عشرات الصفحات من الروايات في سطور قليلة.
ويعد القاص شريف عبد المجيد واحدا من قليلين يكادوا يعدون علي أصابع اليد الواحدة ممن يزالون قابضين علي جمر فن القصة القصيرة، الشغوفين به والمخلصين له. وهو واحد أيضا من قلائل لم يستجيبوا لــ"نداهة" الرواية أو حتي يضعفوا أمام إغراء "موضة" كتابتها حتي أن الشعراء اتجهوا إلي كتابة الرواية أيضا في ظاهرة تحتاج إلي تصدي النقاد ودارسي علم اجتماع الأدب لشرح هذه الظاهرة وتفسيرها.
وفي مجموعته القصصية الأحدث "الببلوماني الأخير"، والصادرة حديثا عن دار الربي للنشر والتوزيع، يقدم القاص شريف عبد المجيد إلي عشاق فن القصة القصيرة وجبة شديدة الدسامة، سواء في محتوي قصص المجموعة ومضامينها، أو حتي الظواهر الحياتية المعاشة التي ترصدها قصص المجموعة بشكل سينمائي مكثف شديد الاختزال والثراء في آن.
فالفارق بين المبدع والشخص العادي، هو أن عينا المبدع وحواسه تلتقط ما نمر به وعليه يوميا في حيواتنا دون أن نلتفت إليه أو نعيره أدني اهتمام أو حتي ملاحظته بدافع الفضول، إنما نتخطاه ونتجاوزه، بينما عينا المبدع خاصة القاص، تلتقط هذه المشاهد والمواقف الحياتية العادية، لتخلق منها أدبا وإبداعا خالصا في صور متعددة عبر الأجناس الأدبية المتعددة وفي القلب منها القصة القصيرة.
ــ "الببلوماني الأخير" وكابوس عالم بلا كتب
منذ أن ظهرت وسائط الاتصال الحديثة والتي اقتحمت حياتنا بدون سابق إنذار، وشكل الحياة المعاصرة تحول وتغير بشكل جذري عما عرفناه وعرفه من قبلنا كثيرا وفي مختلف المناحي. فالهواتف المحمولة صارت جزء من حياتنا، وحتي أشكال التلقي للفنون والآداب تغيرت عما قبلها، فالأفلام السينمائية والمسلسلات المسموعة أو المرئية لم يعد شرط تلقيها من خلال وسائطها، دور السينما أو شاشات التلفاز وأجهزة المذياع، فكل هذا متاح في أي مكان ووقت عبر "اليوتيوب"، حتي المسرح الذي يشترط كما وصفه "بريخت"ــ عن الحائط الرابع ــ وجود المتلقي في قاعة المسرح كجزء من عملية "المسرحة"، صار هو الآخر يقدم عبر وسائط أخري لا تشترط التواجد الجسدي التفاعلي للمتلقي.
وكانت العملية الإبداعية الأدبية هي الأخري لها نصيب من هذه التغيرات، حيث غزت الكتب الألكترونية والمسموعة عالم القراءة، ولم يعد الكتاب في شكله الكلاسيكي الورقي في قائمة تفضيلات القراء خاصة من الأجيال الشابة الجديدة التي تتعاطي الوسائل الأخري في القراءة ككتاب الــ pdf أو حتي الأوديو. لكن يظل الكتاب الورقي بملمسه ورائحة أحباره له عشاقه أيضا ممن يرفضون الأشكال الحديثة في الكتب، ومازال هناك من يسعي إلي معارض الكتب الورقية ويحج إليها عاما بعد عام لشراء واقتناء الكتب الورقية.
وفي قصته التي تحمل المجموعة عنوانها "الببلوماني الأخير"، يرسم لنا شريف عبد المجيد كابوسا قصصيا، عن عالم تختفي فيه الكتب الورقية، ليس هذا فحسب بل تندثر فيه الكتابات الأصيلة ذات القيمة أمام ظواهر أشبه بـ"الموضات" والتيمات المصنوعة الوهمية في الكتابة التي تختفي من يوم لآخر أمام موضة جديدة وكتاب بيست سيللر يتغيرون ما بين التوهج والأفول كما يشاء صانع هذه الألعاب.
يمزج "عبد المجيد" في قصته "الببلوماني الأخير"، ما بين الواقعية السحرية والنفس البوليسي الغامض، بعبارات مختزلة قصيرة جزلة تختصر عشرات المعاني والمضامين في عبارات قليلة، عن عالم تندثر فيه الصحف والكتب الورقية لتتحول إلي صيغ ألكترونية سهل التلاعب فيها بالحذف أو الإضافة ويتوه النص/ الحقيقة الأصلي ليصل إلي متلقيه مشوها ناقصا علي أنه ما قدمه مبدعه الأول.
ــ التدين الشكلاني وبيضة الجلالة
وفي قصته المعنونة بـ"المزرعة السعيدة"، يقدم شريف عبد المجيد ظواهر التدين الشكلاني القشري التي أصابت المجتمع المصري، والذي برغم استخدامه لكل وسائل التكنولوجيا الحديثة وأدواتها إلا أن العقلية الغارقة في الخزعبلات والدجل والشعوذة مازالت سارية ومسيطرة. وهو ما نلمسه حولنا في العالم الواقعي اليومي فلا يمر شهر دون أن تنشر الصحف أخبارا عن حبات طماطم أو بطاطس محفور عليها لفظ الجلالة، ليحتفي بها الجميع كونها معجزة من معجزات الله ودلالة علي وجوده، وإشارة إلي أن من وجد هذه المعجزة ولي من أولياء الله الصالحين!
ــ ما بين الواقع والخيال خيط رفيع
قبل عام أو أكثر كانت الصحف والمواقع الألكترونية قد نشرت قصة قتل زوج إحدي المطربات الشهيرات لخادمه، وفي التفاصيل المنشورة عن الحادث أن هذا الخادم اقتحم منزل المطربة وحاول سرقته واحتجاز قاطنيه وإن كانت التفاصيل التي قدمت يلفها الغموض. ففي الأيام اللاحقة نشرت نفس الصحف والمواقع أن الخادم كان يطالب بمستحقاته المتأخرة لمدة شهور طويلة لم يتقاضي فيها أجره وعندما طالب به أرداه زوج المطربة قتيلا بحجة الدفاع عن النفس.
التقطت عين المبدع شريف عبد المجيد هذه الواقعة التي مررنا بها جميعا ولم يتوقف أحد أمامها، ليحولها إلي قصته "رائحة الجوافة"، وبمشهدية عالية وتقنية القطع والكولاج يقدم "عبد المجيد" تشريحا لمجتمع الرأسمالية التي صار فيها الإنسان مجرد ترس صغير في آلة كبيرة جهنمية تلتهم الجميع، وهو ما أكده في قصته "الذواق"، وربما لعمل "عبد المجيد" في السينما التسجيلية ساعده في كتابة مشهدية سردية، تري بعينيك من خلال الكلمات، شخوص هذه القصص وأحداثها التي لم تتجاوز الصفحتين أو ثلاث من حجم المجموعة الذي بلغ الــ 121 من الحجم الوسط.
ــ ما نمر به يخلده المبدع أدبا وفنا
التفاصيل الصغيرة والتي لا تلفت إلا انتباه المبدع، قد لا نري فيها ــ إن لحظناها ــ ما يستقيم معه أن نبني عليه أو منه عوالم، لكن المبدع يلتفت ويقف أمام كل ما نمر به جميعا في الواقعي اليومي الحياتي المعاش، فكم من مرة تعرضنا إلي طوابير طويلة ومشكلات مع شركات الاتصالات أو البنوك أو حتي المصالح الحكومية، وبعد ساعات مملة كئيبة نقضيها في هذه الطوابير، حتي تلوح الإنفراجة ونحن أمام الموظف المسئول نمني أنفسنا بأن لحظات وينتهي كابوس الإنتظار الطويل، ليسكب هذا الموظف دلو من الماء البارد علي رؤوسنا بعبارة "السيستم واقع"، وهما القصتين اللتان حملتا عنوان "في وقوع السيستم"، والتي تكاد تضبط نفسك تسب لهذا أو ذاك من شخوص القصتين، خاصة وإن الكاتب نجح في شحن أعصابك ومشاعرك في انتظار ما تسفر عنه الأحداث، لتتوحد في النهاية مع أشخاص وأبطال المجموعة وتتماهي مع مشكلاتهم وعذاباتهم وهمومهم كما في قصص: "ولدا مثلك"، و"رجل يشبهني"، و"الجميع ينسون شيئا ما". ففي هذه القصص لا بد وأن يتورط متلقيها في أحداثها ويتعاطف مع شخوصها التي نجح "عبد المجيد" في رسمهم بعناية وحنو أيضا، فهو لم يحاكم مثلا بطل قصته "صاحب الرسالة" فريد بك أو البرنس، رغم أنه قاتل، إلا أننا قد نتفهم أسباب جرائمه التي قد نرتكبها إن أمنا برسالة صاحبها في تنفيذ العدالة التي يراها عرجاء في الواقع المعيش.