القمنى وأوان الفرز
رحيل المفكر والكاتب المصري سيد القمني، أحالنا للزومية الفرز ولأنه قد آن أوانه، فالمفكر الراحل كان شخصًا طيب القلب ومتواضعًا على العكس مما قد يعتقده البعض قرب منه كثيرين وكان هؤلاء هم أول من نهشوا فيه بل وسرقوه.. نعم سرقوه واغتالوه معنويًا.
كان القمني يطمئن لكل من يقترب منه خصوصًا من الشباب راغبي التعلم - أو من يدعون الرغبة في المعرفة والتعلم - وبالفعل اقترب منه كثيرون لمآرب مختلفة، بعضهم كان للاستعراض أو لطلب الشهرة أو التسلق على ظهر المفكر الشهير والادعاء بتبني أفكاره كطريقة للحصول على لجوء لخارج البلاد باعتبارهم غير مندمجين مع المحيط الذي يعيشون فيه والذي يكبلهم وذلك المحيط - والذي لا يقبل الآخر- في المطلق ويتبنى ثقافة القطيع والسمع والطاعة يكبل كثيرين غيرهم، بل وربما يكبلنا جميعًا اجتماعيًا، وبالتالي فهي قضية مجتمعية وإنسانية عامة تضر بالجميع وليسوا هم فقط المضارين منها.
ولا أظن أن من يدعون التلمذة على أفكار القمني قد عانوا مثلما عاني هو، ورغم ذلك لم يفكر القمني يومًا في الهجرة أو اللجوء للخارج والتشدق بالحقوق والحريات وترويج المظلوميات - والتي روجها في حياته - لا يمكن اعتباره كاذبًا أو مزايدًا، لكنه لم يفعل ذلك وفعلوا هم ذلك وأكثر من ذلك، وبعد رحيله أرى لزومية كبيرة لعمل فرز حقيقي لطبيعة الأشخاص الذين هاجموه ويهاجمونه الآن سواء من التيار المتأسلم الأصولي الظلامي أو - وللأسف - من التيار الذي يدعي الليبرالية ويلصق نفسه بالعلمانية وهو لا يتبع مبادئها بل يطوعها من أجل تحقيق أهدافه الشخصية دون أن يعي أو يستوعب رحابة العلمانية وجديتها.
فقد سطح هؤلاء العلمانية وقزموها رغم منطلقاتها الفكرية والإنسانية الجادة والعميقة وأساء كثيرون بالفعل للقمني في حياته وبعد رحيله، وكان للتيار المتأسلم نصيب الأسد من الهجاء والسخرية والتنطع ووصل الأمر لتكفيره والجزم بدخوله جهنم وبئس المصير!
وفي حياته أحلوا دمه وطاردوه باللعنات وتوعدوه بنار الآخرة وكأنهم يملكون كونترول الآخرة، وحرضوا كذلك على اغتياله وقتله ناهينا عن الاغتيال المعنوي والذي مورس عليه وبمنتهى الأريحية، وكل ما سبق ورغم بغضه كان شيئًا متوقعًا ومنطقيًا لا نبرره.. فقط نرصد واقعًا مؤسفًا عشناه ونحلل دوافعه الآن، فالإسلام السياسي كان وما زال يعتبر القمني عدوًا لدودًا، لأن الأخير كشف عن سوءات هؤلاء وعرى أفكارهم وكشف ألاعيبهم وحيلهم وهشاشة فكرهم وانحرافه وصدمهم بحقائق ورؤى، وفضح زيف مقولاتهم وبالتالي زاحمهم وأفسد عليهم مخططاتهم لتقويض الآخر وأضر بلقمة عيشهم، فهم يقتاتون من إخضاع الناس وتركيعهم وترهيبهم باسم الدين. ففي حقيقة الأمر يأكل هؤلاء من عرق الدين لا من عرق الجبين.
هؤلاء لا يعملون ولا يعرقون لكنهم يمتهنون الدين ويتربحون منه مستهدفين من يكدون ويعرقون بجدٍ لغسل أدمغتهم وجعلهم حطبًا يشعلون بهم نيران الحروب والفتن، هذا من جانب إما إساءات المحسوبين على التيار الليبرالي والعلماني للقمني ولسيرته ومسيرته فهو حقًا الشيء المدهش، والأكثر بغضًا بل إنه حقًا شيء مقزز يثير الشفقة والغثيان معًا، وهو أمر لا يمكن تبريره أو تمريره دون فرز، لكشف عوار هؤلاء الفكري والنفسي والوجودي والذي بات حتميًا وضروريًا. فمثل هؤلاء يضرون بمسيرة التنوير أكثر مما يخدمونها واحتسابهم على التيار التقدمي كارثة بكل المقاييس وظاهرة مستحدثة لا بد من التيقظ لها ومنعها من التسلل للجموع وخصوصًا من الشباب صغير السن، لأن فكر هؤلاء المعوج ونفسياتهم المريضة كفيلةً بدمار جيل قادم وتربية ذهنيته وذائقته على منظومة قيم تافهة بل ومنحطة لا تراعي الإنسانيات وجلال الموت وحتمًا ستسير بنا للوراء بل وتستخدم أجندة التيار المتأسلم وتؤكد صوابية نعته للعلمانيين بالتفاهة والانحلال وخلافه.
وجود فكر معوج تافه موتور يتغذى على فكرة الكيد الطفولي والغل المرتبط بسنوات التكوين والتنشئة والاعتماد على ثقافة الصدمة وفكرة رد الفعل لدى بعض من يلصق نفسه إلصاقًا عمديًا بالتيار الليبرالي أو العلماني، شيء في منتهى الخطورة، لأنه ليس فقط سيفشل كل أهداف التيار - إن وجدنا حقًا تيارًا - بل سيفجره من الداخل ويقضي عليه في المهد ويقضي على أي بارقة أمل قادمة للإصلاح.. والذي هو في الأساس فعل تراكمي وليس مجرد لحظة أو موقف أو بوست في الافتراض يحدث الصدمة المؤقتة ثم تصبح تداعياته ونتائجه - في الأغلب الأعم - عكسية على المدى البعيد وتضر أكثر مما تنفع وتنفر أكثر مما تقرب، أما فكرة وجود تيار ليبرالي وعلماني حقيقي على الأرض فهو شيء غير موجود فعليًا وللأسف.
وهنا أعود لتصريحات أستاذي الدكتور (مراد وهبة) والتي أعلنها صريحة مدوية وقال بانعدام وجود تيار علماني حقيقي على الأرض وإن الواقع يرصد وجود جزر منعزلة متناثرة ومتشرذمة بل ومتطاحنة وغير فاعلة خانت أهدافها وفقدت بوصلتها وتشتتت فشتتت، هذا هو وللأسف الواقع المعاش الآن والذي نلحظه جيدًا في مثل هذه المواقف.
عندما تظهر عورات وعوار ذلك التيار - والذي يمكن أن نسميه أو نطلق عليه مصطلح (اللا تيار) والذي عادة ما يقوم بإتيان أفعال وسلوكيات وتصريحات معيبة ومخجلة وصبيانية لا تخلو من ولدنة وانعدام وعي تدلل على فراغ وهشاشة فكر وحيوات هؤلاء ويظهر ذلك على هيئة صراعات مجانية جانبية نلحظها بين الحين والآخر.
والمؤسف والمحزن حقًا أن تلك الأفعال والتصريحات جاءت هذه المرة بعد رحيل القمني وموته لتشويهه واغتياله معنويًا حتى بعد رحيله ومن ثم التشفي والشماتة فيه وفي موته، مصطفين ومتضامنين هذه المرة مع أنصار الإسلام السياسي، وكأنهم أتباع لهم وقطيعهم الذي انغمس وسط التيار العلماني واخترقه وزرع بداخله ليفشله ويفجره من الداخل، فهؤلاء عناصر خاملة وخلايا نائمة من خلايا الإسلام السياسي يعيشون بيننا.