28 فبراير: اليوم المشهود
مَنْ منّا لم يدرس «تصريح ٢٨ فبراير» فى كتب التاريخ المدرسية؟ كلنا، أعتقد، بصرف النظر عن اختلاف الأجيال.. أتذكر أننا درسنا أن بريطانيا أصدرت ما عُرِف بتصريح ٢٨ فبراير من طرفٍ واحد، من أجل إلهاء الحركة الوطنية المصرية، حيث رفعت الحماية البريطانية التى فرضتها على مصر مع اندلاع الحرب العالمية الأولى ١٩١٤، وأعلنت استقلال مصر، لكنه استقلال «جزئى»؛ إذ نَصَّ التصريح على تحفظات أربعة كان أخطرها: بقاء وضع السودان على ما هو عليه، وحماية الأقليات، وتأمين المواصلات والمصالح البريطانية فى مصر.. والحق أن الكتب المدرسية بالغت بشدة فى إظهار «هزلية» وعدم أهمية هذا التصريح، وكان هذا التوجه المدرسى يتم فى إطار الخلاف المصطنع بين ثورتى يوليو و١٩، وبيان فشل ثورة ١٩، وبالتالى مشروعية ثورة يوليو، وهو توجه أتصوَّر أنه خاطئ، لأنه يكرس مبدأ القطيعة بين الثورات، وضد مفهوم أن الثورة- أى ثورة- هى فى النهاية ثورة الشعب المصرى، وليس ثورة الزعيم- أى زعيم.
وتمر علينا هذا الشهر الذكرى المئوية لتصريح ٢٨ فبراير، وهو حدث لو تعلمون عظيم إذا قمنا بمراجعة تاريخية حقيقية لهذا اليوم وأهميته فى التاريخ المصرى.. وفى البداية لا بد من الأخذ فى الاعتبار أن الذى دفع بريطانيا إلى إصدار هذا التصريح هو ثورة الشعب المصرى فى عام ١٩١٩، هذه الثورة التى سالت فيها دماء الشهداء، وكانت أول ثورة بعد الحرب العالمية الأولى يقوم بها شعب ضد الإمبراطورية البريطانية، الإمبراطورية التى لا تغيب عن أملاكها الشمس، الإمبراطورية المنتصرة فى الحرب، سيدة العالم آنذاك، وكان هذا التصريح أكبر تنازل قدمته بريطانيا فى تاريخها حتى ذلك الوقت، نظرًا لأهمية مصر الاستراتيجية لبريطانيا، والطريق إلى الهند.
وترتب على هذا التصريح أمور مهمة غيرت من وضع مصر الداخلى والدولى؛ إذ نصَّ التصريح على أن مصر- ولأول مرة فى تاريخها الحديث- «دولة مستقلة ذات سيادة»، وبالتالى قطع علاقة التبعية مع الدولة العثمانية، حيث كانت مصر «ولاية»، وإلغاء الحماية البريطانية، وإعلان قيام «المملكة المصرية» التى اعترفت بها دول العالم، وحتى الآن يستند وضع «جمهورية مصر العربية» فى القانون الدولى على هذه الأحداث.
وترتب على هذا التصريح السماح لمصر بإنشاء «وزارة للخارجية» لأول مرة، بالقطع كان لمصر قبل ١٩١٤ ما يُعرَف بـ«نظارة الخارجية»، هذه النظارة التى ألغتها بريطانيا مع إعلانها الحماية على مصر عام ١٩١٤، وأصبح المندوب السامى البريطانى هو المتحدث باسم مصر خارجيًا! وتحتفل وزارة الخارجية المصرية هذا العام بعيدها المئوى، لأنها ظهرت فى ١ مارس ١٩٢٢، بناءً على تصريح ٢٨ فبراير، وتأسيس وزارة خارجية حقيقية لها بعثات دبلوماسية فى الخارج، وسياسة خارجية مستقلة.. أما نظارة الخارجية، التى سبق الحديث عنها، فكانت تتم فى إطار التبعية العثمانية، ولم يكن لمصر حق إنشاء سفارات فى الخارج، وكل مهام ناظر الخارجية المصرية كانت الاتصال بممثلى الدول الأجنبية فى مصر لتنظيم الأوضاع القانونية والمالية المترتبة على الامتيازات الأجنبية.. من هنا يصف أستاذنا المرحوم «يونان لبيب رزق» تأسيس وزارة الخارجية المصرية فى أول مارس ١٩٢٢ قائلًا: «تأسست من منطلق الاستقلال الوطنى، وذلك بعد أن سقطت التبعية المصرية لإستانبول، وسقطت الحماية البريطانية عن البلاد».
كما ترتب على تصريح ٢٨ فبراير، وإعلان قيام المملكة المصرية، الدعوة لقيام لجنة إعداد الدستور، وصدور دستور ١٩٢٣، أحد أهم الدساتير المصرية، والذى نظم الحياة السياسية فى مصر حتى عام ١٩٥٢.
دعونا نحتفل بالأيام الزاهرة والمجيدة فى تاريخنا، دون استقطاب سياسى، أو الاحتراب بسيوف التاريخ.