الوسطاء لا يمتنعون
لأسباب غير مفهومة بالنسبة لى وجدتنى منذ سنوات طويلة مهووسًا بعالم الزراعة.. كل تفاصيل العمليات الزراعية تأسرنى وتخطف بالى.. وأجدنى مأخوذًا لأى مساحات خضراء..
وعندما أجد الفرصة مواتية بالنسبة لى لمغادرة القاهرة لأى سبب أجدنى باحثًا عن أى لون أخضر.. أشعر لحظتها أن ماء سلسبيلًا قد دخل إلى روحى وروى الظمأ الذى يحاصرها فى خنقة البيوت الضيقة التى نسكنها وتسكننا.
تلك الهواية التى سحبتنى إلى تفاصيل مدهشة عن أنواع الزراعات وأسمائها ومواعيد طرحها وإنتاجها وأسعارها أيضًا.. دفعت بى إلى متابعة أحوال أهل الزراعة أيضًا من فلاحين ومهندسين وعلماء أيضًا، وبالمناسبة ما أكثر هؤلاء العلماء فى بلادنا حتى وإن كنا لا ننتبه إلى إسهاماتهم- نحن المشغولين بلقمة العيش وبرامج التوك شو وأحوال العودة إلى المدارس بعد إجازة لم يستطع بعضنا أن يفرح بها إلا قليلًا، فقد أرغمنا الصقيع على ملازمة بيوتنا وعدم مغادرتها إلا للشديد القوى.
وبسبب ذلك الصقيع شكا الفلاحون فى بر مصر من العطب الذى أفسد زراعاتهم ودمر بعضها فى بعض الأماكن.. وهو أمر طبيعى جدًا فى ظل أجواء المناخ الغريب الذى هلّ على شرقنا الأوسط كله، فصارت فقرة الطقس هى الأهم بالنسبة لنا فى نشرة الأخبار، وأول ما تذهب إليه أيادينا بحثًا عن تقلباته من عواصف وزعابيب وأمطار فى الموبايلات بحثًا عن ضوء شمس.
وبسبب الصقيع قال وزير التموين إن عددًا كبيرًا من المنتجات زادت أسعاره فى الأيام الماضية.. وجاء تصريح الدكتور على المصيلحى عقب شكاوى المواطنين من ارتفاع ساحق فى أيام متتالية لأسعار الطماطم فى الأسواق، وكذلك الفلفل بألوانه المختلفة والباذنجان وغيرها.
ربما استراح البعض منا عقب قراءة تعليق وزير التموين والتجارة الداخلية.. لكن كثيرين ومنهم أهل الزراعة بكل فئاتهم لم يشبع ذلك القول أنفسهم فلم تسترح.
كثيرون شاهدوا بأعينهم تلك المساحات الشاسعة من البحيرات المصرية الضخمة وجرافاتنا ومعداتنا تقوم بتطهيرها من الحشائش والغابات وتجار المخدرات أيضًا بعد سنوات طويلة من إهمالها وضياع ثروتها السمكية، ولنا فى بحيرة المنزلة مثال.. وكثيرون أيضًا شاهدوا عشرات من المشروعات الكبرى فى مجال تطوير زراعة الأسماك فى بلادنا، وشاهدوا إنتاجها أيضًا يصل إلى الأسواق فى كفر الشيخ ودمياط وبورسعيد وربما أماكن أخرى.. لكن السؤال الذى يسأله الجميع: كيف يصبح عندنا كل ذلك وترتفع أسعار الأسماك.. ولا علاقة للأسماك بالصقيع وبضربات المناخ؟.
يعرف المصريون أن ما تمت إضافته من أراض إلى رقعتنا الزراعية فى توشكى ودلتا مصر الجديدة والفرافرة وغرب المنيا مهول.. تلك المساحات الشاسعة من الأراضى أنتجت الملايين من الأطنان، ورفعت من صادراتنا فى الموالح والخضروات والتمور والزيتون.. هكذا تقول الأرقام والوقائع والمشاهدات أيضًا.. والمواطن غير المتخصص وغير المهموم بالتفاصيل الصغيرة يسأل: لماذا لا تنخفض أسعار الخضروات والفاكهة إذن؟.
بلهجة العارف.. تحدث صديق لى بعد أن سأل: هل تعرف كم وسيطًا يجلس بين الزارع والمستهلك؟.. ثم أجاب: لا يقل عدد هؤلاء عن عشرة وسطاء.. كل واحد منهم يحصل على ما يزيد على عشرة بالمائة من سعر أى سلعة فى مصر.. بما يعنى أن كيلو الطماطم الذى ينتجه الفلاح فى أرضه بجنيه واحد فقط، يصل إلى المستهلك فى الشارع بعشرة جنيهات.
الرجل لم يغفل دور النقل وأسعار المحروقات والعمالة الوسيطة والسائقين والمتعهدين.. لكنه أضاف: كل هؤلاء يعملون ومن حقهم الحصول على ما يوازى عملهم.. لكن الوسطاء وما أكثرهم يحصلون على جانب أكبر كثيرًا مما يستحقون.
من كانوا يسمعون الرجل لم يرحهم تفسير صاحبنا فأضافوا: وماذا عن سعر السكر واللحوم والعدس والفول المستورد؟.. فكان أن جنحنا إلى وسطاء آخرين.
باختصار.. نحن أمام «يغمة كبيرة» فى سوق ضخمة ومتسعة وتبدو فكرة السيطرة عليها غاية فى الصعوبة.
وربما لهذا السبب تأملت خبرًا طويلًا لم ننتبه له كثيرًا عن مؤتمر أقامته وزارة التموين بمشاركة وزير التنمية المحلية، وحضره عدد كبير من المستثمرين والمحافظين أيضًا.. أذكر من بينهم محافظى: الوادى الجديد، وكفر الشيخ، وجنوب سيناء، وبورسعيد والدقهلية والسويس.
لم يكن مؤتمرًا.. لكنه منتدى أعلن فيه عن طرح تسع فرص استثمارية جديدة فى ثمانى محافظات على مساحات شاسعة من الأفدنة.. بعضها يزيد على المائة فدان، وكل ما فهمه المواطن العادى أن هناك توجيهات رئاسية برفع كفاءة منظومة التجارة الداخلية.
النسخة الأولى من منتدى الاستثمار والتجارة الداخلية الأول تعنى وجود نسخ أخرى قادمة.. وتعنى أن عملًا كبيرًا يجرى على الأرض ربما يحتاج المواطن إلى تفاصيل أكثر لفهمه.. فربما كان المنتدى فى صيغته الأولى موجهًا للمستثمرين.. لكنه من جانب خفى غاب عن منظميه أن المواطنين أيضًا معنيون بمعرفة التفاصيل.
ربما تسعى الحكومة إلى خلق فرص لبناء وإنشاء أسواق ومجمعات كبرى للتجارة بديلة وموازية لتلك التى تتحكم فى حركة الكثير من السلع التى يشعر المواطنون بارتفاع أسعارها.. ويشعرون أيضًا بوجود وسطاء كثيرين «يلهفون» الكثير مما يمكن توفيره فتقل الأسعار.
ومن بين ما كشف عنه اللواء خالد فودة محافظ جنوب سيناء أحد المشاركين فى المنتدى أن محافظته بها فرص ضخمة لإقامة مناطق لوجستية، كونها تلجأ إلى مناطق أخرى مثل سوق العبور لجلب احتياجاتها من المواد الغذائية، مشيرًا إلى أن خطة الدولة تهدف إلى توطين ثلاثة ملايين مواطن فى سيناء يحتاجون إلى تلك التجمعات.
الأمر يؤكد أن عملًا كبيرًا يجرى فى بلادنا على قدم وساق.. وأن ذلك العبث الذى كنا نعيش فيه بعد أن تخلت الحكومات لكثير من السنوات عن «السوق».. بكل تفاصيله قد حل أوان مزاحمته.. وطرده إن اقتضى الأمر.. وربما يجىء الوقت قريبًا وعاجلًا الذى نستطيع أن نقول فيه بفم سعيد ومبتسم وراض «الوسطاء يمتنعون».