كل اللى عاشوا فى حضرتك حلوين
لا يوجد طفل صعيدى تقريبًا لم يلعب «التُرانة».. ولمن لا يعرف.. فهى مجرد قطعة من الطمى.. من الطين.. تحصل عليها بسهولة من أى مجرى مائى رطب.. نسميه فى بلاد الجنوب «الفحل» ولا علاقة لهذا الفحل بالضخامة.. بالعكس فهو غالبًا مجرى رفيع جدًا ينقل المياه من «الترعة» إلى الغيط.. يسمونه فى أماكن أخرى من ريف بحرى وبعض محافظات الصعيد أيضًا «القنا» بعد حذف التاء المربطة. هذه القطعة الطرية من الطين يتم صنع ثلاث فتحات صغيرة بها ثم تترك تحت الشمس لتستوى.. ثم نضع خيطًا من «التو» فى تلك الفتحات.. ثم نقوم بجذبه فتحدث دورانًا مدهشًا.
كانت هذه اللعبة البدائية هى أول علاقتنا بالطين الذى كنا نشكل منه كل ما نراه حولنا.. بيوتًا صغيرة تشبه بيوتنا، فمعظمها حتى وقت قريب كان من الطين الخالص المخلوط بالتبن.. وفيما بعد تم «صبه» فى قوالب فأصبح «الطوب النى» الذى صار أحمر فيما بعد.
عرائس وأحصنة وأوانى طهى تشبه أوانى الفخار وعجلات حربية ومصاطب للجلوس والمرح.. كل ذلك من «طين الطبيعة».. هذه هى علاقتنا الأولى بشكل «المعمار» فى بلادنا.. وقتها لم نكن ننتبه إلى ذلك «التألق» والتفوق فى شكل بيوتنا.. ولا يخلو بيت مصرى من بناء هندسى مدهش فى تصميماته البدائية.. ولما كبرت قليلًا استهوتنى «الأبواب والشبابيك الخشبية» الرائعة فى صدر معظم بيوت الصعيد، أما تلك البوابات الضخمة المصنوعة من خشب «السنط» بمغاليقها المحترفة فهى «بدعة» مصرية خالصة تحتاج لمهندس متخصص ليشرح لنا ما فيها من جمال.
ضاعت كل تلك الملاح مع ذلك الفوران الذى أرغمنا على مجاراة طوفان «الانفتاح المعمارى» وهدم البيوت القديمة بترساناتها وأبوابها وشبابيكها.. مشربياتها المدهشة.. وسلالمها الخشبية البديعة.. ذهب ذلك كله فى سنوات قليلة.
الآن.. حينما يفاجئنى تصميم جديد لبيت مصرى يحاول «شم ريحة» تلك الفنون التراثية أجدنى مبهورًا مرددًا «اللى خلف ما متش».. والآباء العائشون رغم كل انحرافات المبانى العشوائية كثيرون وأحدهم ذلك الرجل الذى أتذكره الآن وأذكركم به.. واسمه محمد كمال إسماعيل.
كمال إسماعيل هذا يا سادة هو الذى صمم مبنى دار القضاء العالى.. وهو نفسه الرجل الذى صمم مبنى مجمع التحرير الهائل وفرض أسلوبه على المنطقة المحيطة به.. وهو نفسه المهندس المصرى الكبير الذى أجرى توسعات الحرم المكى دون أن يحصل على مليم واحد حبًا وكرامة للبيت الكبير.. وهو أيضًا أحد الأوائل الذين فكروا فى تحويل عين الصيرة إلى بحيرة للسباحة العلاجية، وقدم لأولى الأمر وقتها.. بالتحديد عام ١٩٤٨ يعنى مما يزيد على سبعين سنة كاملة.. تصميمًا كاملًا للموقع وللفكرة.. تلك الفكرة التى كانت حلمًا أصبحت واقعًا الآن تشاهده الأعين، وعما قريب جدًا سيذهب المصريون والسائحون من كل أرجاء الأرض إلى منطقة سور مجرى العيون ويشاهدون كيف حولت الأيادى المصرية والإرادة المصرية تِلالًا من أكوام الزبالة وآلاف الأطنان من العشوائيات إلى مزار عالمى.
قصة محمد كمال إسماعيل ليست مجرد «حدوتة» نرويها لنمضى بعد أن نقول رحمة الله عليه وكفى.. إنها مجرد إشارة إلى أن هذا البلد الكبير لا يتوقف عن «الحبل» و«الولادة».. ولادة المبدعين والإبداع.. وتلك الصور العشوائية التى طغت لسنوات أهملنا فيها قيمة المصرى وإبداعه ما هى إلا «زوبعة» من زوابع أمشير لا يمكنها أن تطمس قيمة الكنز الذى يمتلكه المصريون الذين ينتظرون دومًا الفرصة المناسبة للتعبير عن مواطن الجمال فيهم.. تلك التى اكتسبوها بالفطرة.. وبعضهم زاد عليها علمًا فوق علم.
محمد كمال إسماعيل.. أو شيخ المعماريين كما يحب البعض أن يلقبه من مواليد سبتمبر عام ١٩٠٨ فى ميت غمر محافظة الدقهلية، وهو أصغر من حصل على الثانوية فى مصر وأصغر من حصل على دكتوراه فى الهندسة من فرنسا.. هذا الرجل هو نفسه صاحب موسوعة مساجد مصر التى قدمها فى أربعة مجلدات عرض فيها تصاميم المساجد المصرية وطرزها، والتى تمت طباعتها فى أوروبا، وكانت سببًا فى أن يمنحه الملك فاروق لقب «بك».. وهو الرجل نفسه صاحب تصميم مسجد المرسى أبوالعباس بالإسكندرية ومبنى كلية الهندسة بعروس البحر المتوسط أيضًا.
أتذكر الرجل الآن وأسأل لماذا لا تفكر كلية الهندسة فى القاهرة، وهو أحد أبنائها، فى تكريمه.. أو كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية وهو صاحب مبناها.. أو محافظة الدقهلية أو وزارة الثقافة؟.. الغرض ليس احتفاليًا بالتأكيد.. لكن نحن والأجيال الجديدة- التى استلبها الفضاء الإلكترونى تمامًا تحتاج إلى من يعيد إليها وإلينا «هويتنا».. هويتنا البصرية.. وهى رسالة وفكرة وغاية تتبناها الحكومة المصرية حاليًا تحتاج إلى من يمهد لها الطريق، ليس فقط لإزالة الغبار عمّا نملكه من تاريخ مبدع، ولكن للحفاظ على ما نبنيه الآن أيضًا.
سيرة محمد كمال إسماعيل «المصرى المبدع» يحتاجها أطفال مدارسنا وعمال مساجدنا وموظفو الدواوين فى مصالحنا الحكومية.. طلاب كليات الهندسة والفنون والخطباء والمدرسون والعامة.
كل من ذهب إلى الحرم المكى.. ولسعت خده تلك النسمات الباردة الرطبة فى عز حر الخليج يجب أن يعرف أن العقل الذى صمم هذه التوسعات لتمر منها أنسمة الهواء فى لهيب الصيف هو ذلك الرجل.
أثق أن من يقرأ ما أكتب الآن يشارك الرغبة فى غناء اللحن ألف مرة فى كل ساعة وترديده كل صباح.. وعلى رأى الحلوانى الكبير فؤاد حداد.
«ريحة ما ورد
وجنة يا قاهرة
حبيتك الحب اللى عمره سنين
متَعت عينى
وما انتهيتش حنين
كل اللى عاشوا
فى حضرتك حلوين
والأحلى جاياتك
فى مشربياتك».