تغريبة ياسر رزق
علمنى أستاذى فى مدرسة العسيرات الإعدادية عبدالباسط أحمد على- رحمة الله عليه- أن أحب كتب التاريخ.. لم يكن يمل من إهدائى تلك الكتب واحدًا تلو الآخر.. وكل أسبوع يعقد لى امتحانًا فيما قرأت.. وكلما وجدنى حافظًا لما قرأت يمنحنى كتابا جديدًا.
كان يراهن على شغفى بمعرفة سيرة البشر والأماكن.. علمنى أستاذى محبة القراءة لكنه لم يعلمنى كيف أُحب التاريخ.. فقد اكتشفت بعد رحيله أن التاريخ يكذب ويتجمل.. ولا يتجمل أحيانًا.. بل يكذب بوقاحة.. ويبرر كتبة التاريخ أكاذيبهم بأن التاريخ يكتبه المنتصرون.. يكتبه من يملك السيف والقدرة على غرسه فى أفئدة الضعفاء.. التاريخ يكذب إذن فلماذا أحبه وأنا لا أصدقه من الأصل؟.. هل فقط لأننى أحب «أبوزيد الهلالى»؟! حتى هذه أنا لا أدرك مدى صحتها.. هل أنا أحب أبوزيد أم أدمن تغريبته أم أننى أسير لربابة جابر أبوحسين التى لازمتنى منذ كنت طفلًا ولاتزال؟
هذه الحيرة لم يخرجنى منها إلا كتاب.. نعم هو كتاب أيضًا اسمه «شخصية مصر» ومبدعه لم يكن من كتبة التاريخ لكنه أصدقهم.. لأنه لا يعترف إلا بحقائق الأرض والسماء.. الجغرافيا أصدق أنباء من التاريخ، حتى وإن غيرت الطبيعة بعضًا من ملامحها.
الجغرافيا لا تتجمل.. البركان بركان.. والإعصار إعصار.. والجبل جبل.. والريح الشعواء ريح شعواء.. والمطر مطر.. والبشر بشر.
ومنذ عرفت طريق جمال حمدان وأنا أنظر للتاريخ ولكتبته وما يكتبون بريبة شديدة.. لم أهملهم، فما أنا بقادر على التجاهل والنسيان لكننى لم أصر عبدًا لأكاذيبهم.
لم أُصبْ بالحمى.. ولا أخذتنى لوثة.. عقلى لا يزال يعمل وإن كانت الشرايين المؤدية إليه قد أصابها العطب.. ولذا أنا لا أصدق حرفًا واحدًا مما كُتب.. لا أصدق أن ياسر رزق قد مات.
كتبة التواريخ يؤكدون أن جسده قد غادر منذ أيام قليلة.. وأن كل هؤلاء البشر الذين كانوا فى السرادق جاءوا فى وداعه.. يبكون ويترحمون.. فيما هو قبالتى يروح ويجىء وفى فمه سيجارته وفى يده تليفونه المحمول الذى لا يفارق أذنه.. «هو يسمع كثيرًا ولا يتحدث إلا عندما يكون هناك داعٍ للكلام».
ياسر رزق لم يكن بائعًا للكلام مثل آلاف ممن ينتمون إلى مهنة الكلام.. ولم يكن يشترى أيضًا من كتبة التاريخ إلا ما يعرفه ويعرف أنه حدث.
عشرون سنة ويزيد وأنا أعرف هذا الرجل الذى تتحدثون عنه الآن بفخر شديد- وهو يستحق- لم يطلب مدحًا من أحد.. ولم يسع إلى مكافأة من أحد.. وإن كان- مثلنا جميعًا- فى حاجة إلى كلمة طيبة.. كلمة طيبة تهدهد ذلك الصدر الموجوع منذ سنوات طويلة دون شكوى.
يقولون إن سيجارته التى لا تفارق شفتيه.. قتلته.. وهى واحدة من أكاذيبهم الكثيرة.. ياسر رزق لم يكن يحب التدخين.. هو كان يحب إشعال الحرائق.. ألم يكن أول من كتب «متى يغضب الجيش؟!».. هو يحب الدفء وسيجارته تكفى.. كان يعرف أن الحريق يلتهم عمره قبل أن يوقظ النائمين والبائسين الساعين إلى مناصب زائلة.. كان يعرف أن قطعة من رئتيه لم تعد تحتمل، وأن الدعامات التى قام بتغييرها ثمانى مرات لم تعد تحتمل هى الأخرى.. لكنه منذ جاء إلى هذه القاهرة- وهو يحفظ تاريخ المغترين جيدًا- وهو يعرف أن الورق الذى يسطرون يحتاج إلى «طهارة».. يحتاج إلى الحريق لتطهيره من «ذنوبهم وذنوب أسلافهم ممن لا يعرفون هذه البلاد وناسها الحقيقيين.. الطيبيين الذين كتبوا تاريخها الحقيقى».. فكان أن أشعل سجائره ومضى.
كنت أردد أمامه فى إحدى سهرات تقفيل مجلة الإذاعة والتليفزيون مقطعًا من أغنية لمحمد رشدى كتبها عبدالرحيم منصور ولحنها بليغ حمدى تقول:
«يا مروّح.. ماتخدنى
معاك يا مروّح
تتملى بعينى الفرحة
ويّا المناديل بتنوح»
فانتبه.. وراح يحدثنى عن تلك التغريبات التى عاشها أهل القناة.. أهله.. حكى لساعات عن أمثالهم ممن تغربوا فى معارك لا أول لها ولا آخر.. وفيما هو يحكى «تسح دموعى».. وكأننى وأنا ابن الصعيد أعيش كل تلك «التغريبات».. عشق ياسر أهل القناة ومقاومتهم.. حكاياتهم.. وأسماء الفداوية منهم.. يحفظ الوقائع والعناوين والأسلحة كما يحفظ اسمه.. أنت بس قوله «الإسماعيلى هيتغلب» واسكت.. وبعدها اسمع.
ياسر رزق.. لم يكن يكتب التاريخ لأنه ماضٍ.. لكنه لا ينسى.. هو لم يكن ينسى حتى يتذكر ونتذكر معه أننا فى «معركة مستمرة».. وأشد ما كان يخشاه أن يكتب تاريخ هذه المعركة «الكذبة والأفاقون».. لذلك لم يترك قلمه ولا ورقته ولا ساعة واحدة.
لم يكن يأكل تقريبًا.. فلا متعة لديه للطعام.. ولم يكن يحب السفر على كثرة ما سافر.. هو لا يستمتع بالفسحة مثلما يستمتع بونس البشر.. ورفاقه فى «قهوة الزمالك» وشقة مدينة نصر وغرف المدينة الجامعية يعرفون ذلك.
لم يخطط لشىء.. وهو الذى يرسم الصفحات بيده اليسرى جيدًا.. وخطه الرقعة الجميل.. لم يعمل حساب أى شىء.. لا مرض.. ولا صحة ولا فلوس.. ولا أيام صعبة.. وهو الرجل الحريص على دقة الحروف.. والألوان.. والفونتات.. ولأن لا شىء يحدث صدفه فكان أن يسّره الله ليكون أحد شهود عصره.. وحده يعرف مئات الأسرار التى لم يمهله القدر ليكتبها فى مقاله الأسبوعى.. أو يضمنها صفحات كتابه الوحيد «سنوات الخماسين» تلك التى كان يصارعها ليصنع «حريقه الأخير» وها هو يضعه.
حبايب ياسر رزق الذين يكتبون الآن سيرته.. تغريبته.. وحدهم يعرفون سره.. سر الرجل الذى اغترب ٥٦ سنة كاملة ليصبح «إنسانًا».