مكتبة فى كل قرية.. معرض فى كل حى!
عندما طالعت الخبر لأول مرة لم أصدق ما قرأت.. مكتبة فى كل قرية.. متى حدث ذلك؟.. ومن الذى فكر ودبر وقرر ونفذ؟.. هو حلم لا شك.. لكن الأحلام أحيانًا ما تتحقق وتصبح واقعًا أحلى من شمس الشتا فى عز الطوبة وأكبر من قدرتنا على التصديق.
منذ سنوات.. حدثنى الصديق عاطف عبيد وهو أحد المبدعين الشباب والناشرين المغامرين عن حلم يسعى له.. بأن يكون هناك منفذ للنشر سماه «المكتبة الذكية».. ويسعى أن يتم تنفيذه مع وزارة الشباب.. كانت فكرته تعتمد على أنه سيوفر الكتاب.. ويحتاج لمن يوفر له المكان.. فى كل قرى مصر.. بدا المشروع طموحًا ومكلفًا.. قرأت المشروع وأنا فى مكتبة بعمارة يعقوبيان.. وتذكرت فكرة مماثلة.. طرحها بعض الزملاء لإنشاء أكشاك صحافة جديدة فى المحافظات لزيادة توزيع الصحف الورقية وتذكرت محاولات لبعض أعضاء مجلس النقابة- نقابة الصحفيين- لاستكمال تلك الأكشاك التى توقفت منذ إنشاء الخط الأول للمترو.. وعند كل انتخابات نقابية يطرح البعض الفكرة فى برنامجه الانتخابى، ثم تنتهى الانتخابات وتنتهى الوعود ولا شىء يحدث.
يومها وأنا أقرأ فكرة عاطف عبيد.. ومراحل تنفيذها وأقلب الهاتف على تلك النماذج التى صممها للكشك الذكى.. وتذكرت كل تلك السنوات التى ضاعت دون إضافة كشك ثقافى واحد فى المدن الجديدة وتذكرت أيضًا فكرة أحد الأصدقاء الذى كان يحلم بأن تكون هناك مكتبة فى كل مول جديد تتم إقامته فى مصر.
يومها تحدثت مع الزميل العزيز ضياء رشوان.. وكان لا يزال مرشحًا.. وأرسلت له نموذج «الكشك».. وفرح هو الآخر.. وذهب إلى وزير التنمية المحلية على ما أعتقد- أو ربما- رئيس هيئة المجتمعات العمرانية ليحدثه فى الأمر.. وأعتقد أنه تحدث مع وزير الشباب والرياضة أيضًا.. ثم مضت الأيام وجاءت كورونا.. وتوقف كل شىء وظل الأمر مجرد حلم وفكرة حتى قرأت ذلك الخبر.
لم نكن وحدنا نحلم.. كان هناك من يفكر ويحلم مثلنا ويحول الأحلام إلى أمر قابل للتداول.. وها هم مسئولو حياة كريمة مع وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم يفتتحون فى قرية المراشدة بقنا أول نموذج لمكتبات القرى ضمن تلك البلاد التى ستطولها «حياة كريمة».
يا الله.. هل يحدث هذا حقًا.. إنها ليست مجرد حيطان جديدة وطوب أحمر جديد يضاف إلى كل تلك الكتل الخرسانية.. ليست مجرد مواسير مياه تشق طريقها فى الأراضى لتصل إلى صنابير العطاشى فى بلادنا البعيدة المنسية.. لكنه مشروع أكبر وجسر إضافى لوصل ما انقطع.. نعم وصل ما انقطع وهو كثير.
عندما سادت «ثقافة الفهلوة».. ونظريات عبيله واديله فى سبعينيات القرن الماضى.. تراجع كل ما له علاقة بالثقافة إلى خلفية المشهد..
تسيّد ذوق تجار الخردة وصبيان معلمين المخدرات الساحة والمشهد.. ولم يكن الأمر مجرد أغنيات هابطة حاولت الرقابة على المصنفات الفنية فى وقتها الوقوف فى وجهها.. كان الأمر أكبر من ذلك بكثير.. وفيما كانت نغمات وإيقاعات «إيه الاستوك ده.. اللى ماشى يتوك ده» تتسلل لتخترق بيوتنا من إسكندرية إلى أسوان.. كانت تجرى عملية هدم متواصل لكل ما هو إنسانى.. دور العرض السينمائية تتساقط واحدة تلو الأخرى لتقوم مكانها أبراج جديدة قفراء خالية من أى معنى للحضارة أو للمستقبل.. وصار نموذج المثقف شائهًا فى عيون الكل.. حتى وصل إلى الدراما التليفزيونية ومنها استقر فى أذهان شبابنا.. أنت مثقف يعنى «معفن.. رث الثياب.. مهوش الشعر.. فاضى الجيوب.. أهطل تقريبًا».. وباستثناء النماذج التى كان يقدمها أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد للمثقف بدا النموذج الهش هو القابل للتصديق.. حتى ظن أبناؤنا أن كلمة مثقف تعنى ذلك الشاعر الأهطل الذى يردد، كما اللمبى ،«الحب الحب.. الشوق الشوق»، أو هو نموذج يوسف معاطى فى «مرجان أحمد مرجان».. «الحلزونة يامه الحلزونة» ذلك البائس الذى أدى دوره ضياء الميرغنى.. الذى يبيع نفسه وشعره لتاجر يشترى كل شىء فى البلاد حتى ذمة «عارضة كرة القدم».
باع الجميع أنفسهم.. وانعزل المثقفون الحقيقيون فيما خرج من بين الجمهور من تربوا على كتب الأرصفة وشرائط الكاسيت الوهابية التى كانت تباع مع «المسواك.. والجلابية البيضاء القصيرة والعلاج الشعبى لأمراض الذكورة أمام المساجد».
تغول أصحاب الفكر المتشدد.. وانتشرت كتب عذاب القبر وتكفير الدنيا بحالها.. وانسحبت كل كتب التنوير إلا قليلًا.. ولم تعد هناك قيمة لا للكاتب ولا للمكتبة.
الآن.. نستعيد ما ضاع.. ومشروع مكتبة فى كل قرية ليس رفاهية.. ونظرية «الجعان يحلم بسوق العيش».. لا تتعارض مطلقًا مع «الجوعى للمعرفة».. لا يمكن بناء بلد أو استعادة مبانيه ووجهه الحضارى دون كتاب.. دون معرفة.. فربما نستطيع أن نبنى المدن الجديدة والعمارات العملاقة والمدارس الحديثة ويجىء من يجهل قيمتها فيقوم بهدم ما بنيناه فى لحظة.
الوصول إلى القرى بالكتب ليس ترفًا ولا نزقًا.. وها هى الدولة- العارفة- تفعل.. ومئات المكتبات يتم إنشاؤها بالتوازى مع المستشفيات والمدارس ومكاتب البريد والجمعيات الزراعية الجديدة.. نعم.. نتعلم ونعالج مرضانا ونخدم مزارعينا.. وقبل ذلك نتيح للجميع «عدالة المعرفة».
واليوم.. فى نفس الوقت الذى تنتشر فيه تلك المكتبات التى لم تمتلئ بالكتب بعد.. يحل موعد معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الجديدة.. وقد تخطى المعرض عامين غاية فى الصعوبة فى عز سطوة كورونا.. تجاوزنا الأمر بنجاح كبير.. وها نحن نعبر فى نفس التوقيت الذى يقام فيه جسرنا الجديد نحو مستقبل نتمناه أن يكون الأفضل.
بناء المتاحف وإعادة إضاءة معابدنا.. فى الأقصر وسانت كاترين.. وعملية تطوير قلب القاهرة القديمة بثقافاتها المتعددة.. يصل ما انقطع مع حضارتنا الفرعونية.. حضارة مصر القديمة التى تعبر كل الحضارات بتكامل فذ مع الحضارة الإسلامية.. مصر القديمة- مجمع الأديان والحضارات تتجمل من جديد.. والأهرامات على موعد فى العام الجديد مع فتح جديد.
لذلك كان من الطيب أن يكون شعار «هوية مصر سؤال المستقبل» أحد الأسماء والعناوين الكبيرة لدورة معرض الكتاب هذا العام الذى يحل فى ظل أوضاع مناخية صعبة.. شتاء شديد البرودة نعم وصناع الكتاب يعيشون ظروفًا صعبة بعد ثلاث سنوات مع المعاناة.. لكن الجميع مثقفون وصناع نشر.. وجمهور فرحون ومقبلون ومستعدون للتحدى الجديد.
نحن وبلا أدنى شك.. قادرون.. ليس فقط على إقامة معرض واحد للكتاب عنوانه «التجمع.. بل نستطيع ما دمنا نبنى مكتبة فى كل قرية.. أن نقيم معرضًا فى كل حى.. فى كل شارع.. ومن قرأ ما كتبه عمنا فؤاد حداد «الثقافة كتب وناس» يعرف أن هؤلاء الناس هم أساس أى مستقبل.. العارفون هم القادرون على علاج أمراض الحاضر وبناء المستقبل. وكل عام وأنتم فرحون وعارفون وبخير.