«مركز اللغة الفارسية بالأزهر» يبحث دور التسامح الدينى فى تأمين السلم المجتمعى
قالت وحدة رصد اللغة الفارسية بالأزهر الشريف، إن العالم المعاصر يتعطش لترسيخ قيم التسامح حتى يتخلص مما ابتلي به من حروب وصراعات، نتجت عن التعصب الأعمى والتمييز الديني والعنصري، لا سيما قيم التسامح الديني والتعايش السلمي المشترك بين الأديان والثقافات المختلفة، والتي دعا إليها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
وتابعت: "فقد حث هذا الدين الحنيف على إرساء دعائم المواطنة وأسس التعايش الإيجابي بين أبناء البلد الواحد، ووضع الحقوق والواجبات التي تكفل لهم جميعًا العيش في جو من التسامح والإخاء، وتُحقق المساواة بينهم دون أي تمييز، فأقر بحق الاختلاف، واعترف بحرية التعبد والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية والطقوس التعبدية دون خوف على النفس أو إجبار لأحد على ترك دينه أو فرض شريعته عليهم، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [النحل: 93].
وأضافت: وفي هذا المقال سنتعرض للحديث عن التسامح الديني في الإسلام وأسسه، وكيف يساهم في تحقيق الأمن والسلم المجتمعي والتحديات التي تواجه ترسيخ هذه القيم، والجهود التي يبذلها الأزهر لنشره.
التسامح الديني في الإسلام:
حث القرآن الكريم المسلمين على معاملة المخالفين لهم في العقيدة معاملة طيبة، ومجادلتهم بالحسنى، وبناء علاقات وُدية قائمة على المبادئ والأصول المشتركة بينهم؛ فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
بل وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكراهية وظلم الآخر وتقييد حريته والاعتداء عليه بسبب عقيدته أو جنسه أو لونه أو عنصره، وخير دليل على ذلك إبرامه صلى الله عليه وسلم معاهدة مع غير المسلمين فور دخوله إلى المدينة؛ تقضي بأنهم مواطنون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات، وأوجب على الصحابة البر بهم والإحسان إليهم والدفاع عنهم وعدم الاعتداء عليهم أو إيذائهم بحال، كما قابل صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، وأكرم وفادتهم، وسمح لهم بالصلاة في المسجد عندما حان موعد صلاتهم، فقاموا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يصلون، وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوهم»؛ فصلَّوا إلى المشرق.
ثم بعد حديثه صلى الله عليه وسلم معهم ومجادلته إياهم لم يفرض عليهم اتباعه، بل تركهم وما أرادوا، فقالوا له: (فلنتركك على دينك، ولنرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلًا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا) [ابن هشام، السيرة النبوية، تعليق/ محمد عبدالسلام تدمري، ج2، ص 216 وص 225]؛ وذلك لأن تقدم أي مجتمع مرهون بتسامح أفراده وقدرتهم على العيش بسلام والتعاون الإيجابي بينهم بغض النظر عن اختلافهم، حتى يتمكنوا معًا من الذود عن وطنهم والحفاظ على مقدراته وحماية مرافقه.
أهم مبادئ التسامح الديني
من أهم مبادئ التسامح الديني قبول الآخر، والإقرار بحقيقة أن الاختلاف سنة من سنن الله في خلقه، وأنه لا سبيل لإقامة مجتمع يسوده الاستقرار والسلام دون التخلي عن الأعمال العدائية وكراهية المخالف وقتاله بسبب الاختلاف العقائدي معه، وقد ابتليت الأمة الإسلامية في العقود الأخيرة بظهور جماعات وتيارات نسبت نفسها للإسلام زورًا وبهتانًا، وتبنت أفكارًا وتصورات خاطئة بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الحنيف، واعتبرت القتل والتصفية جزاءً وفاقًا لكل مخالف في الرأي أو المعتقد، فشنت الحملات الإرهابية على غير المسلمين في العديد من البلدان، فعلى سبيل المثال لا الحصر نشر هذا التنظيم الإرهابي "داعش" في يناير 2020م وبالتزامن مع عيد الميلاد شريط فيديو يظهر فيه إعدامهم لأحد عشر مسيحيًّا في شمال شرق نيجيريا، ويقول ملثم في الشريط إنها "رسالة للمسيحيين في جميع أنحاء العالم" (وفقًا لما نشره موقع يورو نيوز 6/1/2020م).
أيضًا من مبادئ التسامح الديني احترام دور العبادة وحرمة استهدافها، وقد تعرضت دُور العبادة في العديد من البلدان إلى هجمات غاشمة من تنظيمات إرهابية تسعى لزعزعة الاستقرار وزرع الفتن الطائفية؛ منها على سبيل المثال: الاعتداء على كاتدرائية بمدينة "ماكاسار" شرق إندونيسيا، في شهر مارس 2021، وذلك بالتزامن مع الاحتفالات الدينية عند المسيحيين الكاثوليك، أصيب على إثره 10 أشخاص، وقد تبين أن الجناة رجل وامرأة ينتميان لجماعة أنصار الدولة الموالية لتنظيم "داعش" الإرهابي، وهذا يفضح أجندتهم المشبوهة في إلصاق أعمالهم المتطرفة بتعاليم الدين في حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبيل الحروب والغزوات بألا يمسوا دُور العبادة بسوء، وهذا في حال الحرب ومن باب أولى الحفاظ عليها في السلم.
وما يؤكد على أن هؤلاء لا يهتمون إلا لمصالحهم وتنفيذ أجنداتهم المشبوهة وخلق مجتمعات تعِجُّ بالفتن، أنهم لم يتوانوا عن استهداف المساجد في كل بلد ابتلي بوجودهم، فخلال احتلالهم للعراق -على سبيل المثال- استهدفوا مئات المساجد والأضرحة والكنائس والمعابد الأخرى في مدينة الموصل، كما حوّلوا بعض المساجد إلى ثكنات عسكرية ومخازن للأسلحة وساحات للصراع، فانتهكوا حرمتها وقدسيتها. [موقع ديارنا بتاريخ 23 / 6 / 2017م].
ورغم رفض الإسلام لتلك الممارسات الآثمة، إلا أن ما يدعو للأسف هو التهم التي يلصقها البعض بالإسلام، وهو منها براء وكما اجتزأ "داعش" النصوص من سياقها للترويج خدمة لأهدافه، نجد أن البعض أيضًا يجتزئ النصوص لينشر صورة سيئة عن الإسلام؛ كقول البعض: إن الإرهاب ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال:60]، والحقيقة أن المقصود بـ(ترهبون) في هذه الآية قوة الردع، والاستعداد للعدو المحارب عن طريق إعداد الإمكانيات والتجهيزات لتخويفه وإرهابه حتى لا يتجرأ على المحاربة والقتال، ولا شك أن كل المجتمعات تقوم بذلك، وتمتلك قوة ردع لتحمي نفسها.
وما من شك في أن ترسيخ قيم التسامح الديني يضمن وحدة الدولة وتماسكها وتحقيق الأمن والسلم المجتمعي، ولا شيء أكثر تهديدًا للدول من تلك الأفكار التي تمكنت من حشد جيش من الشباب، وامتلاك ترسانة إعلامية استطاعت نشر العنف، وتبرير الاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة، وتخريب دور العبادة؛ فأصبح لا مفر من تكاتف الجهود لبيان أهمية التسامح الديني، ورفض التعصب المذهبي والفكري الذي عانت منه المجتمعات البشرية لعقود، ولم تجن منه سوى الحروب والمعارك التي أوقعت آلاف الضحايا، فالصراع على أساس الدين يمزق نسيج الأمة الواحدة ويفرق وحدتها، وهو ما ترنو إليه الجماعات المتطرفة، وما واجهه العالم بسبب التعصب الديني من استباحة الدماء والتعدي على الأعراض وقتل النفس بغير الحق والتنكيل والتعذيب يجعل الجميع يتوق إلى ترسيخ التسامح ونبذ التعصب.
الأزهر الشريف ونشر التسامح الديني
يقول فضيلة الإمام الأكبر أ. د. أحمد الطيب، في شأن التسامح: "إن قيمة التسامح يجب أن تكون مبدأً إنسانيًّا عالميًّا راسخًا يحكم العلاقات بين البشر بمختلف معتقداتهم وألوانهم وعرقياتهم، وهي أيضًا من أهم الرسائل التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف، ويتبناها الأزهر الشريف كرسالة عالمية يسعى لنشرها في جميع أنحاء العالم".
وعن جهود الأزهر في نشر التسامح الدينى تحدث الدكتور نظير عياد، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية والمشرف على مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية، قائلًا: "إن المتأمل في جهود الأزهر المتعلقة ببيان صحيح الدين وإبراز قيم التسامح والعيش المشترك، يجد أنه استطاع نقل هذه القيم من مجرد التنظير والتأصيل إلى الممارسة والتطبيق والتفعيل في أرض الواقع، من خلال قطاعاته المختلفة بقيادة فضيلة الإمام الأكبر أ. د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر" كان ذلك أثناء فعاليات احتفال بيت العائلة المصرية بمرور عشر سنوات على إنشائه، وأوضح الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، أن الدين الإسلامي قد دفع أتباعه إلى التسامح مع الآخر وتقبل اختلافه والتعايش والتفاعل الإيجابي معه، انطلاقًا من مبدأ التعارف والبر، الذي دعا إليه القرآن الكريم في كثير من المواضع.
علاوة على ذلك؛ فمن أهم أهداف وثيقة "الأخوة الإنسانية" التى وقعها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، تعزيز قيم التسامح والتعايش المشترك والأخوة الإنسانية.
ويبذل الأزهر الشريف جهودًا مضنية في مكافحة الفكر المتشدد ونشر التسامح وترسيخ الفكر المعتدل في جميع أنحاء العالم، من خلال مبعوثي الأزهر الشريف الذين يقومون بدور كبير في تصحيح المفاهيم الخاطئة، وبيان التعاليم الصحيحة للإسلام، والمساهمة بشكل فعال في الحد من انتشار ظاهرة التطرف، والقضاء على الأفكار الهدامة التي تروجها التنظيمات المتطرف.
كما يقوم مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بدور فعال في نشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي والتسامح بين الأديان؛ وذلك من خلال عقد ندوات ومحاضرات يحضرها الطلاب من مختلف الجامعات المصرية، كما أصدر المرصد كتابًا عن حرمة الاعتداء على دور العبادة، وضرورة إرساء التعايش السلمي بين أصحاب الديانات، وقام بنشر العديد من المقالات والحملات التي تخاطب مختلف الأعمار والثقافات، وتعمل على إبراز قيم التسامح الديني، ونشر الإخاء، وتقبل الآخر، ونبذ التعصب والكراهية.