عبدالناصر والسينما «1-3»
تهل علينا هذه الأيام ذكرى ميلاد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فى يوم ١٥ يناير. وربما لا يعلم الجيل الحالى أن هذا اليوم كان بالنسبة لجيلى هو يوم عيد الطفولة، فكانت مدرستى الابتدائية تحتفل احتفالًا خاصًا بهذه المناسبة، وما زلت أتذكر النشيد الذى كنا نردده فى هذا الاحتفال: "عيد الطفولة عيدنا.. مجد العروبة فى قلبنا... إلى الأمام". وبصرف النظر عن أى نقد يمكن توجيهه للمرحلة الناصرية، إلا أن هذا التاريخ ما زال يُلقى بظلاله علينا حتى الآن.
فكرت كثيرًا عن ماذا يمكن أن أكتب فى هذه الذكرى، وما أكثر ما كُتِبَ عن الحقبة الناصرية. وتذكرت عندما كنت ضمن تشكيل اللجنة العلمية الأولى لمتحف جمال عبدالناصر، استرعى انتباهى أن منزل عبدالناصر فى منشية البكرى كان يتضمن فى الطابق الأسفل قاعة سينما صغيرة، اعتاد عبدالناصر أن يشاهد فيها الأفلام، حيث كان من عشاق السينما، كما كان يهوى أيضًا التصوير السينمائى. ولم يكن عبدالناصر حالة خاصة فى هذا الشأن، إذ عشق جيله بأكمله الشاشة الكبيرة الساحرة، هذه الشاشة "السينما" التى شاركت فى صنع وجدان ووعى هذا الجيل. من هنا قررت أن أكتب عن عبدالناصر والسينما.
وأشار علىّ الصديق العزيز المصوِّر الكبير سعيد شيمى بمراجعة كتاب "عبدالناصر والسينما" للمرحوم على أبوشادى، وفى الحقيقة التهمت الكتاب كله فى سهرة واحدة. يحتوى الكتاب على مقدمة مهمة للصحفى والناقد الأمير أباظة، ودراسة مهمة للناقد الكبير كمال رمزى عن صورة عبدالناصر فى السينما العربية- وسنقوم بعرضها فى الجزء الثانى من المقال- ودراسات مهمة للمرحوم الصديق على أبوشادى عن حال السينما المصرية فى الحقبة الناصرية، ومعالجة مهمة لمسألة سينما القطاع العام، جعلتنى أعود مرة أخرى لقراءة الكتاب المهم لدرية شرف الدين عن السينما والسياسة.
ومنذ بداية الكتاب يُعلن على أبوشادى عن هويته الناصرية، التى يعتبرها تعبيرًا عن حلم جيل بأكمله ليس فى مصر فحسب، بل من المحيط إلى الخليج، ويحاول أبوشادى أن يكون أيضًا موضوعيًا. يبدأ أبوشادى كتابه بطرح قضايا ساخنة- أتصور أنها ما زالت حية حتى الآن- مثل: "بين السينما والسياسة فى مصر علاقة معقدة شديدة التشابك والتداخل"، وهى مقولة مثيرة تستحق الاعتبار لأنها تنطبق أيضًا على تاريخ السينما العالمية.
يُشيد على أبوشادى بما قدمته الفترة الناصرية من إنجازات للسينما المصرية، ويبدأ ذلك بإنشاء "مصلحة الفنون" فى عام ١٩٥٥، وتولى رئاستها الأديب الكبير يحيى حقى. وكيف بدأ حقى تجربته فى نشر الثقافة السينمائية بتأسيس "ندوة الفيلم المختار" فى عام ١٩٥٦، وكيف اتخذت الندوة من حديقة قصر عابدين "القصر الملكى السابق" مكانًا لعروضها، ما يعد دليلًا على فتح أبواب الثقافة للشعب. ويشير أبوشادى إلى أهمية هذه الندوة فى تاريخ حركة النقد السينمائى فى مصر، إذ خرجت منها حركة النقد السينمائى الجديد والتى تبلورت فى جمعية الفيلم فى عام ١٩٦٠. ثم اتخذت شكلها الرسمى والقانونى فى عام ١٩٧٢ بتكوين جمعية نقاد السينما المصريين. ويؤكد أبوشادى إدراك ثورة يوليو لأهمية السينما فى "العهد الجديد"، من هنا كان قرار إنشاء أول مؤسسة عامة للسينما فى مصر وفى الوطن العربى عام ١٩٥٧ "مؤسسة دعم السينما"، هذه المؤسسة التى تحولت فى عام ١٩٥٨ إلى "المؤسسة المصرية العامة للسينما" التى أصبحت مهمتها "رفع المستويين الفنى والمهنى للسينما وتشجيع وعرض الأفلام العربية، وإقراض المشتغلين بالإنتاج السينمائى الهادف، ومنح الجوائز لهذا الإنتاج، وإيفاد بعثات طويلة وقصيرة الأجل لدراسة فنون السينما، وظلت شركة مصر للتمثيل والسينما تنفذه، حتى إنشاء المعهد العالى للسينما فى عام ١٩٥٩".
ولكن هل كل ذلك كان البداية من جانب ثورة يوليو لتأميم السينما؟ وما تداعيات سينما القطاع العام على السينما المصرية؟
هذا ما سنتعرض له فى الجزء الثانى من هذا المقال.