العقاد وعبقرية المسيح
ربما لا يعرف الجيل الجديد مَنْ هو عباس محمود العقاد، الشهير فى تاريخنا الفكرى بـ"العقاد". وُلِد العقاد فى عام ١٨٨٩، ولذلك هو من جيل العِظَام الذين ولدوا فى أعقاب الاحتلال البريطانى لمصر فى عام ١٨٨٢، وسيكون هذا الجيل على موعد مع القدر، فهو بحق جيل ثورة ١٩، وإرساء قواعد القومية المصرية. ربما بدأ العقاد- مثل جيله- مشواره قبيل ثورة ١٩، لكن توهُج هذا الجيل فى الميدانين الفكرى والسياسى كان فى أعقاب الثورة.
وبالقطع ليست مهمتنا هنا فى مثل هذا المقال القصير استعراض دورى "العقاد" الثقافى والسياسى، وإنما فقط الإشارة إلى هذا الجيل ودوره فى صياغة مصر الجديدة القائمة على الفكر والمواطنة، وكَتب العقاد ضمن ما كتب سلسلة كتبه الشهيرة بـ"العبقريات" مثل: "عبقرية محمد"، "عبقرية الصديق"، "عبقرية عمر"، "عبقرية عثمان"، "عبقرية على"، وهى السلسلة التى عُرِفَت بـ"عبقريات الإسلام"، لكن العقاد ابن ثورة ١٩، وأحد رموز المواطنة المصرية، أخرج لنا أيضًا كتابه الشهير "عبقرية المسيح".
لا أدرى لماذا تداعت لى كل هذه الخواطر الآن وأنا أتابع- للأسف الشديد- الجدل الذى يدور حول هل يجوز للمسلم تهنئة القبطى فى عيده؟!
وعلى الرغم من أن بعض النقاد يصنفون "العقاد" ضمن التيار المحافظ فى الأدب والفكر المصرى، إلا أنه لا يجد أى غضاضة فى وضع كتاب عن عبقرية المسيح على شاكلة ما كتبه عن عبقرية الرسول والخلفاء الراشدين. أقول هذا كرسالة لبعض الشباب الآن، وحتى لبعض المتشددين الإسلاميين، وأتساءل: ماذا لو وضع مسلم الآن كتابًا عن عبقرية المسيح؟ هل تطاله سهام التكفير؟!
يبدأ العقاد كتابه عن "عبقرية المسيح" بعبارة مهمة توضح اهتمامات هذا الجيل ونظرته إلى "الأنا والآخر"، وأيضًا إلى العِلم فى ذاته: "هذا الكتاب مقصور على غرض واحد وهو جلاء العبقرية المسيحية فى صورة عصرية نفهمها الآن، كما نفهم العبقريات على أقدارها وأسرارها".
ومن بداية الكتاب وحتى نهايته يرفض "العقاد" المسلم الدخول فى الأمور الجدلية بين الأديان، فمهمته كما أوضحها دراسة عبقرية المسيح والمسيحية، ومن الأمور المهمة فى الكتاب أن "العقاد" يقوم بنفسه بالرد بالحُجَج والأسانيد على بعض العلماء الأوروبيين الذين قاموا فى القرن التاسع عشر بحركة نقد للكتاب المقدس، وذهبوا إلى إنكار وجود السيد المسيح نفسه، وأن قصة المسيح من اختراع التلاميذ. يُفَنِد العقاد "المسلم" هذا الأمر ويجمع الأدلة التاريخية واللغوية على تاريخية المسيح وليس أسطورته.
ويسجل "العقاد" إعجابه بقدرة المسيح على توصيل رسالته، ويقوم بدراسة بلاغية لأقوال السيد المسيح، ويذكر بعضها مثل النماذج التى يعوِّل فيها على القياس: "إن كنتم تحبون من يحبونكم فأى فضل لكم؟ أليس ذلك شأن العشارين"، ومنها أيضًا فى تبكيت من ينكرون عليه صحبة الخاطئين: "لا حاجة بالأصحاء إلى طبيب، وإنما المرضى يحتاجون إلى الأطباء"، وأيضًا: "إن كان النور الذى فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!".
ويلخص "العقاد" أمر المسيحية قائلًا: "إنها دعوة كانت تنتظر صاحبها، وصاحبها هو المسيح، وكانت حاجة العالم كله إلى الدعوة المطلوبة لا تكفى بغير صاحبها القادر عليها والصالح لإقامتها".
فلنفهم أن الأديان جميعًا هى وسيلة لخير البشر، وليس للبغضاء والصراع والحروب، "إن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت".