الفرنسى والجارية
سمع نرفال في الزورق الذي يقلهما إلى الميناء صوتا شجيا يغني بلغة لم يفهمها، وعرف فيما بعد أنها اللغة التركية، كان المغني فتي جميلا له ملامح جركسية وعينان سوداوان، وكان أصفر الشعر حليقه، يحمل صندوقا يحتوي على أدوات كتابية وأحبار، اعتبره نرفال كاتبًا مثله. كان الشاب أرمني الجنسية يريد السفر إلى بيروت، لكنه لا يملك تكاليف السفر، في البداية اعتذر له نرفال. ولكن الشاب أخبره بأنه في هذه الحالة سينتظر حتى يتقابل مع أحد الإنجليز ليدفع له نفقات الرحلة. سببت تلك الكلمة ألما لنرفال، غير أن الشاب أخبره بأن القبطان الأرمني صديقه. في الباخرة كان القبطان ومساعده مسيحيين ينتميان إلى الكنيسة الرومانية، أما باقي النوتية والملاحين فهم أتراك مسلمون. عند غروب الشمس لاحظ نرفال أن المؤذن يؤذن للصلاة، ويتجمع النوتية ويولون وجههم تجاه مكة ويؤمهم في الصلاة أحد النوتية له لحية شهباء. لم يمنع نرفال الجارية من الصلاة مع النوتية الأتراك، ولكنه لاحظ أن النوتي ذا اللحية الشهباء يكثر من الحديث مع الجارية أكثر من غيره.
في البداية لم يلفت الأمر انتباهه. لأن النوتي في عمر جدها، ولكنه مع تطور الأمر وهو لا يعرف فيما يتحدثان، بدأ القلق يساوره، وكلف نرفال الشاب الأرمني بمراقبة الموقف، وأن يخبره بما يسمعه، وبعد فترة أخبره الأرمني بأن الأتراك المسلمون يقولون: إن المرآة التي برفقتك ليست ملكا لك.
قال نرفال: إنهم مخطئون، وفي إمكانك أن تبلغهم أن عبد الكريم باعني إياها في القاهرة بخمسين كيسا، ومعي إيصال البيع، ومع ذلك فهذا أمر لا يعنيهم!
- يقولون إن النخاس لا يملك حق بيع امرأة مسلمة لرجل مسيحي.
- رأيهم هذا لا يهمني، وفي القاهرة يعرف القوم عن ذلك أكثر منهم، وكل الإفرنج يقتنون العبيد والجواري سواء كانوا من المسلمين أو من المسيحيين.
وهز الأرمني رأسه دلالة الشك، وقال له نرفال:
- أصغ إليًّ. أما عن حقي فأنا لا أشك فيه، فقد قمت بالاستعلامات اللازمة، ولكن عليك أن تخبر القبطان، بأنه من غير اللائق أن يتحدث النوتية مع الجارية.
وعندما أخبر الأرمني القبطان بما قاله نرفال أخبره القبطان بأن على نرفال أن يبعدها عنهم.
ولكن نرفال لم يشأ أن يحرمها من متعة الحديث بلغتها التي تجيدها، ولا أن يمنعها من الانضمام إليهم في الصلاة، وأيًا كان الأمر فإن الحياة على ظهر السفينة تضطر الجميع إلى أن يكونوا معًا، ومن الصعب منع تبادل بعض الكلمات.
في الصباح استيقظ نرفال وشاهد صبي الطاهي يغرف ماء الشرب ويغتسل به، وحاول نرفال أن يمنعه من استعمال ماء الشرب في الاغتسال، واقترب من الصبي وحاول أن يحدثه باللغة العربية، وبحث نرفال عن بداية يبدأ حديثه مع الصبي فلم يجد إلا كلمة "حبيبي..", ونظر إليه الصبي باسما. وفي فترة الظهر أخبره الأرمني بأن القبطان يعرض عليه أن يبادله الجارية بالصبي الذي غازله في الصباح، كان الأرمني يحاول أن يحسن الصفقة لصالح القبطان وقال لنرفال:
- الصبي شديد البياض والجارية سمراء.
دهش نرفال، ولكنه بالطبع لم يوافق.
لم يتحدث النوتي مع الجارية، ولكنه كان يتحدث مع رفاقه أمامها بصوت مرتفع، وفهم نرفال أن الأمر يتعلق بالمسلمين وعلاقته بالجانب الديني، لأجل هذا استدعي الجارية وقام الأرمني بالترجمة. وسألها:
- ماذا قال لك هؤلاء؟
- قالوا لي إنني مخطئة، لأنني مؤمنة، ببقائي مع الكافر.
- ولكن ألا يعلمون أنني اشتريتك؟
- يقولون إن أحدًا لا يملك حق بيعي لك.
- أتظنين أن هذا صحيح؟
- ألله أعلم.
- هؤلاء الرجال مخطئون ولا تتحدثي إليهم بعد الآن.
- حاضر.
وطلب من الأرمني أن يقوم على تسليتها، ويقص عليها القصص بلغتها العربية.
عندما خرج نرفال من كابينته وجد الجارية تتحدث مع النوتي العجوز. في هذه المرة لم يجد نرفال ما يحرص عليه وجذب الجارية من ذراعها في عنف حتى سقطت على أرض الباخرة فوق كيس من أكياس الرمل، وصاحت الجارية في نرفال: يا غول.
ووصلت الكلمة إلى سمعه بوضوح وأجاب: بل أنت غول.
وأشار إلى النوتي العجوز وقال: وهو كلب.
لم يعرف نرفال ما إذا كان الغضب الذى اعتراه ناشئًا عن معاملته باحتقار بصفته مسيحيًا، أم من التفكير في جحود تلك المرأة التي كان يعاملها معاملة الند.
عندما سمع النوتي سبابه قام بحركة تهديد، وتقدم ناحيته اثنان من زملائه وهو يلفظون الشتائم، وبحركة آلية أمسك نرفال بمسدسه، وكان غير محشو.
واندفع الأرمني ليمنعه. قائلا:
- إنه مخبول، وسوف يتحدث إليهم القبطان.
تظاهرت الجارية بالبكاء، ولم ترد أن تتحرك من المكان الذي جلست فيه. وجاء القبطان، ووجه إليهم كلمات لينة.
وقال نرفال: ما إن تطأ قدمي على الأرض حتى أذهب لمقابلة الباشا، وأجعلهم يتلقون ضربات العصى.. يتبع.