أفغانستان: جناية الجغرافيا وقسوة التاريخ «١- ٢»
يتذكر جيلى حدثًا لعب دورًا مهمًا فى إنهاء الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، وهو غزو الاتحاد السوفيتى لأفغانستان، وتورطه فى حرب مريرة أسهمت بشكل ما فى سرعة سقوطه، وكانت لهذا الغزو تبعات خطيرة على المنطقة العربية؛ إذ ارتفعت صيحات «الجهاد» ضد الغزو الشيوعى المُلحِد لبلدٍ إسلامى، هو موطن السيد جمال الدين الأفغانى، واستغل التيار الإسلامى ذلك الأمر، كما استغلته جيدًا أجهزة المخابرات الغربية فى حربها ضد الاتحاد السوفيتى.
وقتها لم أكن أعرف شيئًا عن تاريخ أفغانستان، ولكن مع دراستى للتاريخ بعد ذلك اكتشفت أن غزو الاتحاد السوفيتى لأفغانستان لم يكن أول غزو أجنبى لها، ولن يكون الأخير، وانجذبت لفترة فى محاولة لتفهم الظاهرة الأفغانية، ولكن دراسة تاريخ مصر والمنطقة العربية سرعان ما جذبتنى بعيدًا عن أفغانستان.
لكن المشهد الأخير والمريع، مع جلاء القوات الأمريكية عن أفغانستان، وتعلق آلاف الأفغان بالطائرات فى مطار كابول فى محاولة يائسة للهروب من جحيم الفراغ السياسى وعودة طالبان من جديد- دفعنى لمعاودة محاولة فهم الظاهرة الأفغانية.
وبشكلٍ عام لستُ من أنصار الحتمية التاريخية وفكرة القدر والمصير لبلدٍ ما، فكثير من شعوب العالم استطاع أن يغير مصيره، لكن النموذج الأفغانى من النماذج المثيرة والجديرة بالدراسة لظاهرة الأثر الجغرافى على مسار التاريخ، وهو ما أطلقتُ عليه فى الحالة الأفغانية «جناية الجغرافيا وقسوة التاريخ».
إذن لعبت الجغرافيا دورًا خطيرًا فى تشكل تاريخ أفغانستان؛ حيث تعتبر أفغانستان من الدول القليلة المغلقة فى العالم، ومصطلح «الدولة المغلقة» المقصود به جغرافيًا: الدولة التى لا سواحل بحرية لها، وبالتالى ليس لها ميناء مفتوح على العالم، وغالبًا ما يترك هذا النموذج أثره على المجتمع والاقتصاد فى هذه البلدان، ولكن لا تتوقف جناية الجغرافيا على أفغانستان عند هذا الحد، إذ تعانى أفغانستان من تضاريس جغرافية صعبة، حيث يحدها من الشرق العديد من أعتى السلاسل الجبلية فى العالم، مثل كتلة البامير وجبال الهيمالايا وهندكوش، ومن بقية النواحى جبال البرز المتصلة بجبال الزاجروس الفارسية الموازية للخليج العربى الممتدة إلى جبال مكران، التى لا تكاد تنتهى عند مكران حتى تبدأ سلسلة جبال سليمان بين أفغانستان وباكستان!
ولم تكتفِ الجغرافيا بوعورة التضاريس فحسب، وإنما أضافت ندرة المياه؛ حيث لم تحظ أفغانستان إلا بعدة أنهار صغيرة قليلة الجدوى، بينما يحيط بأفغانستان فى البلدان المجاورة الأودية الخصيبة، مثل وادى السند فى الهند، وسستان فى فارس، ولنا أن نتخيل نظرة الأفغانى فى حسرة إلى هذا الوضع البائس.
والأمر الخطير بالنسبة لجغرافيا أفغانستان، وانعكاس ذلك على تاريخها عبر العصور، أن أفغانستان أصبحت فى الحقيقة منطقة «ترانزيت» عبور بين فارس والهند، وبالتالى لا بُد من تصارع القوى السياسية فى البلدين- فارس والهند- للسيطرة على أفغانستان لضمان حدودهما، ولتصبح أفغانستان منطقة عازلة، وسيزداد أمر أفغانستان سوءًا مع ظهور الإمبراطورية الروسية والنظرة إلى أفغانستان على أنها منطقة عبور إلى آسيا، أو على الأقل ضرورة السيطرة عليها لجعلها دولة حاجزة!
ولم تقف جناية الجغرافيا على أفغانستان عند مجال الجغرافيا الطبيعية فحسب، بل شملت أيضًا الجغرافيا البشرية؛ إذ ترتب على الوضع الجغرافى السابق الإشارة إليه أن أصبحت أفغانستان خليطًا من الأجناس المحيطة بها، وأهمها الفرس والترك والمغول والآريوهندكوش، بالإضافة طبعًا إلى السكان الأصليين، ودعمت الأوضاع الجغرافية روح القبيلة، وأضعفت من قوة أى دولة مركزية، ووقعت الصراعات بين العناصر السكانية القوية مثل الطاجيك والمغول والترك الأوزبك وغيرهم، ولم يتوقف أمر الانقسام على مسألة العرق، وإنما شهدت أفغانستان الانقسام التقليدى فى العالم الإسلامى بين أغلبية سنية وأقلية شيعية!
هذه كانت جناية الجغرافيا على أفغانستان، والتى سنشاهد أثرها على التاريخ فى المقال المقبل.