شكرا وزارة الثقافة.. صون الهوية بتسجيل الخط العربي في اليونيسكو
عرفت الأمة العربية كيف تؤصل لتراثها الخالد باللغة العربية، بل تبدع فى كتابتها بالخط العربى ؛ الذى فاق كل فنون وتصميمات الكتابة في مختلف اللغات، لتميزها بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والاستدارة والزوايا والتشابك والتداخل والتركيب؛ واقترانها بفنون الزخرفة العربية "الأرابيسك"؛ واستخدمت لتزيين المساجد والقصور، وتجميل أطر الصفحات فى المخطوطات وخاصة القرآن الكريم، الذى أقسم فيه الله عز وجل بالقلم والكتابة في قوله تعالى " ن والقلم وما يسطرون " .ولنا أيضًا أن نستحضر ما قاله ابن خلدون في مقدمته " الخط هو ثاني مرتبة من مراتب الدلالة اللغوية، وجودة الخط تدل على مدى التقدم والعمران والحضارة "، لذا .. برع في مجال الزخرفة كثير من الفنانين.
وكانت مصر صاحبة الريادة فى هذا المجال ؛وأول من قطعت باعًا طويلاً فى مجال إبداعات فن الخط العربي ؛ بدءًا من عهد الملك فؤاد الذي قام باستقدام الشيخ عبدالعزيز الرفاعي من تركيا في عام ١٩٢١م، فقام بكتابة المصحف الشريف في ستة أشهر وذهَّبه وزخرفه في ثمانية أشهر أخرى، وبعد عام أصدر الملك أمره بتأسيس مدرسة للخط العربي، وكان على رأس مدرسيها الشيخ عبدالعزيز الرفاعي ، وقد تخرجت أولى دفعات هذه المدرسة في عام ١٩٢٥م ،وكان لهذه المدرسة الفضل في تخريج كوكبة من نوابغ هذا الفن، وكان في مقدمتهم الخطاطالنابغة سيد إبراهيم فذاع صيته وتهافتت عليه المعاهد العلمية والفنية ليقوم بتدريسه ، وتخرجت على يديه أجيال من الخطاطين المصريين والعرب والأجانب ، وهناك العشرات من الفنانين الأفذاذ فى مجال فنون الخط العربى الذين برعوا واستعانت بهم دور النشر ، وخصصت لهم مكتبة الأسكندرية العديد من الموسوعات التى تؤرخ لفنونهم وتراثهم ليثري المكتبة العربية والعقل العربي، وهم كثُر على الساحة الثقافية المصرية .ولست بصدد استعراض تاريخ نشأة هذا الفن لكنها مجرد لمحة حيث تحضرني مقولة لعالمة اللغويات الجليلة د.وفاء كامل فايد وهي أول سيدة تحصد عضوية مجمع الخالدين، حين وجه إلي أحدهم تعليقا على مقال لي على صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك حديثا ينطوي على استياء شديد من استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، قائلا:" يا دكتورة انا شوفت مجلة كاملة من الجلدة للجلدة مع واحد صاحبى فى عربيته مكتوبة بالعربى بالحروف اللاتينية". فإذا بالدكتورة وفاء تسارع وتسبقني بالرد عليه بمنتهى الضيق والغيرة على لغتنا الجميلة معلقة بقولها:
"هذه هي المؤامرة المتكاملة للقضاء على ثوابتنا: اللغة والثقافة واستخدام الخط العربي، فهم يحرصون على إبعادنا عنه لكي ننعزل عن تراثنا العربي المتطاول الذي يفوق عمره أي تراث أجنبي آخر. تفكيك الأمة العربية هدف التحالف الاستعماري الآن، ومصر بالذات شوكة في حلقهم بعد أن تساقطت أكثر من دولة عربية حولها. اللهم إنا نستغيث برحمتك أن تنقذنا من الضياع وترد كيد الكائدين."
تبادر إلى ذهني هذا كله لحظة أن عرفت بالنصر الثقافي الجديد الذي أعلنته وزارة الثقافة مؤخرا في هذا المضمار المهم لواحد من أهم ثوابت اللغة العربية وهو الخط العربي ؛
وكأن الأقدار قد استجابت لدعوة أستاذتنا الدكتورة وفاء كامل ؛ ولمجهودات حماة اللغة والتراث الثقافي المخلصين . وتحقق هذا النصر لمصرنا الحبيبة في حماية رافد من أهم روافد لغتنا المستهدفة، حيث خاضت مصر، بجهود مضنية لأبنائها من العلماء الوطنيين الشرفاء الذين يعشقون تراب هذا البلد ولا يألون جهدا في إنفاق الوقت والجهد والعرق في سبيل رفعته والحفاظ على هويته خطوة مهمة ،حققت بها النجاح في تسجيل الخط العربي على قوائم التراث الثقافي العالمي غير المادي باليونسكو، الذي عبرت عنه وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم في كلمتها ووصفته بأنه: إنجاز جديد لمصر في مجال صون الهوية باعتبار الخط من أهم مفردات الحضارة العربية،وأحد الوسائل الفاعلة فى التعريف بها مما يسهم فى الحوار بين الثقافات العالمية،ويدعم جهود إلقاء الضوء على تاريخها ،وذلك عبر جهود وزارتى الثقافة ووزارة الخارجية ووفد مصر لدي اليونسكو وهو الملف السادس الذى تم تسجيله بعد ( السيرة الهلالية ، والتحطيب ،و الأراجوز ، والممارسات المرتبطة بالنخلة والنسيج اليدوى بالصعيد )، وذلك ضمن اجتماعات اللجنة الحكومية الدولية وبحضور جميع الدول الأعضاء.
نجحت مصر في نيل هذا التسجيل بالتنسيق مع دول السعودية ،و لبنان ، والأردن وتونس وذلك بعد تقديم ملف شاركت مصر فى إعداده مع 16دولة.
وقد عمت الفرحة الوسط الثقافي كله بإحراز هذا النجاح وتحقيق هدف عالمي للغتنا في مرمى شبكات عالم اللغات والحروف والخطوط وهي خطوة رئيسة للحفاظ على اللغة العربية من الاندثار في ظل الاستخدامات الحديثة التي فرضتها مستحدثات الحضارة والتكنولوجيا في التواصل بين الناس مما يهدد لغتنا العربية بالضعف والانهيار إذا لم تتخذ خطوات جادة من المعنيين بحمايتها والقائمين عليها لإنقاذها من براثن الاستعمالات الخاطئة وإهمال ركائزها التي تقوم عليها.
وها قد ظهرت جهودهم المشكورة على السطح بأن كلللت بالنجاح غير المسبوق في حماية أحد هذه الركائز بهذا الشكل المشرف على المستوى العربي والعالمي في آن معا.
وختاما تبقى الأمنيات من الإصرار على التنبيه بضرورة الاهتمام بتعليم قواعد وأصول الخط العربي للأجيال الصاعدة ؛ حتى لاتصطدم أعيننا بتلك الخطوط الرديئة التى تشبه ما يسمونه من قبيل التعبير عن الفجاجة والقبح بـ "نكش الفراخ"، والعمل الجاد على ضرورة العناية فى كتابة الحروف العربية بما يليق بها من إجلال واحترام ؛ لأنها همزة الوصل بين القاريء واللغة العربية . وفى اعتقادي أن هذا الاهتمام لن يتأتى إلا بفتح المجال أمام كل الراغبين في الاندماج مع هذا الفن الراقي، وتسهيل الانتماء أو الانتساب إلى مدارس ومعاهد تدريس وتعليم فنون الخط العربي بكل أشكاله الجمالية وألوانه المتعددة، فالخط العربي جماليًا له قواعد خاصة تعتمد على التناسق والتناسب بين الخط والنقطة والدائرة ، ويعتمد على كل العناصر الفنية التى تستعين بها الفنون التشكيلية من الكتلة والفراغ ،مما يجعل الخط العربى لوحة فنية تتهادى عين القارىء عليها فى انسيابية؛ كما يتهادى القارب على صفحة الماء الرقراق فى ضوء القمر . وكم رأينا من لوحات فى فنون الخط العربي تزدان بها القاعات الكبرى والقصور ،تنقل إلى مشاهديها المزيد من الراحة لمجرد وقع العين عليها والتمعن فى إبداعات الفنانين العظماء، الذين جعلوا الحروف العربية تنطق بكل البهاء الذى تستحقه لغتنا العربية ومكانتها الرفيعة بين لغات العالم .
لايستلزم الأمر سوى ضرورة إدراج تدريس فن الخط العربي ضمن مناهج جميع مراحل التعليم ، وليس قاصرًا على المراحل الأولى من التعليم الأساسي ،بل جعله مادة أساسية يدرسها أساتذة مختصون فيه ؛لتصبح كراسة الخط العربي فى صحبة الدارسين حتى سنوات التخرج من الجامعة ،على أن تنضاف درجاتها ضمن المجموع العام للطلاب في فن الخط العربي من جميع الفئات والأعمار أسوة ببقية المواد الأخرى ، وتسهيل الحصول بأسعار مخفضة على الأقلام والأدوات الخاصة بممارسة هذا الفن الراقي ، لتخريج أجيال تلحق بسابقيها من الفنانين العظماء الذين أعطوا حياتهم لهذا الجمال ، فعاشوا فى ذاكرة الأمة خالدين .
ونحن حماة اللغة وبوصفي أنتمي إلى هذه الجبهة أضم صوتي لصوت د.إيناس عبد الدايم في توجيه الشكر كل الشكر للجنة صياغة الملف وهم الدكتورة نهلة إمام خبير التراث الثقافي غير المادي وممثل مصر به والدكتور هاني الهياجنة ( الأردن ) ،و الدكتورة آني طعمة ( لبنان ) ، والدكتور عماد بن صولة ( تونس ) والفنان المصري محمد بغدادي المستشار العلمي للملف.
وشكر جديرة به وزارة الثقافة! فبداية الغيث قطرة وقد انهمرت وسيعم خير كثير !
أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر