ولاء أسعد: روايات نجيب محفوظ منحت للأمكنة هوية اجتماعية خاصة
قدمت الباحثة والأكاديمية ولاء أسعد دراستها المعنونة بـ«المكان المغاير في روايات نجيب محفوظ.. دراسة في علم اجتماع الأدب»، لنيل درجة الدكتوراة، مساء السبت، وجاءت تحت إشراف دكتور سامية قدري ونيس، أستاذ ورئيس قسم علم الاجتماع السابق بكلية البنات جامعة عين شمس، دكتور شريف سعد محمد الجيار، أستاذ النقد والأدب المقارن ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة بني سويف، دكتور همت بسيوني عبد العزيز، أستاذ علم الاجتماع المساعد والقائم بعمل رئيس القسم، بكلية الآداب، جامعة كفر الشيخ.
وقالت «أسعد» لـ«الدستور»: «تدور الرسالة حول دراسة العلاقة بين الأماكن المغايرة في روايات نجيب محفوظ والسياق الاجتماعي الذي أُنتجت فيه، حيث شكَل المكان في الأعمال الروائية أهمية خاصة، فعادة ما تتم أحداث الرواية داخل المكان، كما أن بعض الروايات حملت أسماء أماكن بعينها، ومن ثم كانت هذه الأماكن هي الأبطال الحقيقية لهذه الروايات.
وتابعت: «كشف التراث البحثي المُتصل بالأعمال التي تنتمي إلى علم اجتماع الأدب بوجه عام والأعمال التي تختص بأدب نجيب محفوظ على وجه التحديد».
ولفتت، إلى أن جُل هذه الأعمال تفتقر إلى دراسة المكان دراسة سوسيولوجية مُتعمقة، حيث اقتصرت الدراسات على حقول النقد الأدبي بأقسام اللغة العربية واللغات الأجنبية، كما كشف هذا البحث عن افتقار الدراسات التي أُجريت حول أعمال نجيب محفوظ إلى تقديم تحليل نظري مغاير للأطر الكلاسيكية في علم اجتماع الأدب، ومن ثم نتج عن قراءة التراث النظري المُعاصر التوصل إلى مفهوم جديد لدراسة المكان يُمكن أن يكون بمثابة إطارًا تحليليًا جديدًا أو مدخلًا نظريًا يمكن من خلاله تحليل الأعمال الأدبية المُتصلة بالمكان، وهو مفهوم المكان المغاير «الهيتروتوبيا Heterotopia»، ذلك المفهوم الذي صكه الفليسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"، وطبقه في بعض من أعماله النظرية الذي اصطلح على ترجمته "بالمكان المغاير" ويقصد به نقل الواقع إلى أماكن أخرى تُمارس فيها العلاقات الاجتماعية بشكل عام وعلاقات السلطة على وجه التحديد.
وتابعت: "ووفقًا لهذا، وقع اختياري على بعض أعمال نجيب محفوظ التي تدور في أماكن مغايرة "وفقًا للمفهوم الفوكوي" وهي: روايات زقاق المدق، وثرثرة فوق النيل، وميرامار، وأفراح القبة. فالعوامة في ثرثرة فوق النيل، والبنسيون في ميرامار، وخشبة المسرح في أفراح القبة والزقاق في زقاق المدق جميعها "أماكن مغايرة" لأنها نقلت الواقع الاجتماعي إلى أماكن أخرى تحررت فيها الشخصيات من قيم وعادات المجتمع السائدة ومارست علاقات اجتماعية يصعب ممارستها في الواقع، كما كانت بمثابة فضاءات للمتعة، أو ممارسة الرذيلة، أو التعبير بحرية عن الواقع السياسي، أو أماكن لتعويض الفقد الذي لحق بالشخصيات في الواقع الفعلي المَعِيش".
وأشارت ولاء أسعد إلى أن دراستها توصلت لعدة نتائج منها:
- حظى المكان باهتمام كبير في جُل أعمال نجيب محفوظ الروائية، استعان به ليصنع فضاءً واسعًا يجسد من خلاله أحداثًا مجتمعية واضحة المعالم. لذا تدور جُل كتاباته في الشوارع، والحواري، والأزقة، والمقاهي، والعوامة، والبنسيون، وغيرها من الأماكن ذات الدلالة الفنية من ناحية والتي تعكس صفحات من تاريخ مصر، وتصبح بمثابة حقبة تاريخية يمكن الرجوع إليها لمعرفة التغيرات الاجتماعية في المجتمع المصري في فترات تاريخية مختلفة من ناحية أخرى.
بالإضافة إلى ذلك تحوي هذه الأماكن على تفاعلات بين الشخصيات من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، فمن خلال المكان تتولد الشخصيات، وتصبح الصلة بين المكان والشخصيات هي التاريخ.
- ووفقًا لتعريف المكان المغاير، الذي صكة ميشيل فوكو، والذي يعني نقل الأحداث الواقعية إلى فضاء آخر مغاير، فقد أوضحت الدراسة أن بعض أعمال نجيب محفوظ تدور في أماكن مغايرة مثل الزقاق الضيق، والعوامة المتأرجحة، والبنسيون الثابت، والمسرح ذات القبة العالية والفضاء المتسع، لنكتشف من خلاله أن المكان ليس مُجرد فضاء فيزيقي وإنما مكانًا حيًا يعمل على تشكُل الحياة الاجتماعية داخله ويؤثر على مصائر شخصيات التي تعيش في إطاره.
وهنا يمتزج فن الكاتب مع إبداعه، فيجمع المكان بين الشيء ونقيضه في آن واحد يجمع بين الجاهل والمثقف، بين العاهرة والشريفة، بين القواد والتقي، بين قائم الصلاة ومدمن المخدرات، بين الهدوء والسكينة، بين الحركة والانفعال، بين الحب والكراهية وكلها سمات للشخصية ظهرت من خلال تحليل الأماكن المختارة.
- تعددت الأمكنة وتنوعت في الروايات ما بين أماكن مغلقة وأخرى مفتوحة، حيث تعكس الأماكن المغلقة خصوصية وحميمية المكان، بينما تعكس الأماكن المفتوحة المعطيات الثقافية والاجتماعية، والنفسية، وتؤكد أيضًا على حرية الأشخاص في التعامل مع المكان. لذا تعمد محفوظ أن يذكر الأماكن بأسماء واقعية لتكون أكثر مصداقية.
وهنا يتوازى استخدام الوصف والسرد مع الواقع، فوصف الأماكن وصورها وجسد كل ما فيها بطريقة تمنح القارئ القدرة على تخيل المكان سواء كان مغلقًا أو مفتوحًا.
- منح «محفوظ»، للأمكنة هوية اجتماعية خاصة، سواء كانت هذه الأمكنة مغلقة أو مفتوحة، فيصف الكاتب المكان وسكانه وكأنه يصف حياة أسرة واحدة تجمعهم ظروف واحدة ومصير واحد، إذا فقد جعل من المكان وعاء يحوي سكانه بظروفهم الاجتماعية، والثقافية، والنفسية، والاقتصادية، والسياسية.
فالشخصيات ماهي إلا تشريح للمكان ولا يمكن تحديد المكان ولا معرفة الشخصيات دون تفاعلهما ووجودهما وحركتهما معًا، كما أن جغرافية المكان تتحد بتفاعل الشخصيات وقدرتها على تجسيد بعض المواقف التي تعبر عن هوية وخصوصية المكان نفسه.
لذلك وضح الكاتب في جُل رواياته مدى تأثر الشخصية بالمكان الذي توجد فيه، إلا أن هذا التأثير قد يؤثر سلبًا أو إيجابًا، بعبارة أخرى قد يحدد مصائر الشخصيات وتحقيق طموحاتهم وآمالهم وانتصارهم وفي أحيان أخرى يكون سببًا في انكسارهم وقمعهم.
- بالإضافة لذلك يُعد المكان البُعد المُكمل لشخصيات وأحداث العمل الروائي، لذلك ربط نجيب محفوظ بين المكان والعناصر السردية الأخرى، الزمان والمكان والأحداث، وجعل منه بعدًا مكملًا لشخصيات الروايات، كما جعل الشخصية نفسها أحد مكونات المكان، فلا يمكن لأحداث الروايات أن تتحقق بدون وجود شخصيات وما ينتج عنها من علاقات اجتماعية.
كما أعطى المكان للشخصيات الحرية وأحقية التصرف فيما تريد فلم يضع الراوي عليهم قيود للتصرف، كما استطاع المكان أن يجعل كل شخصية تبوح عما بداخلها بكل جرأة، وحرية ودون أي قيود.
يذكر أن ناقش الرسالة أ.د/ أحمد عبد الله زايد، أستاذ علم الاجتماع والعميد الأسبق لكلية الآداب- جامعة القاهرة، وعضو مجلس الشيوخ حاليًا، أ.د/ علياء رضاه رافع، أستاذ علم الاجتماع، جامعة عين شمس، وقررت اللجنة منح الطالبة درجة الدكتوراه في الآداب تخصص علم اجتماع الأدب بتقدير مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبع الرسالة وتداولها.