فرنسى والجارية 3
كان القنصل قد دعا نرفال إلى رحلة للريف، ولم يكن من اللائق أن يصحب الجارية معه، كما أنه خاف أن يتركها ليوم كامل بمفردها مع الطاهي والبواب، ودله القنصل على أحد الأقباط واسمه منصور، من الذين تبعوا الحملة الفرنسية عقب رحيلها وأقام في مرسيليا، وعندما استولي البوربون على الحكم طردوه من فرنسا، بعد أن أبدى ولاءه للإمبراطور نابليون، وعاد إلى القاهرة من جديد هو وزوجته.
بقي منصور القبطي في منزل نرفال مع الجارية أثناء غيابه في الرحلة مع القنصل، وكان وجود القبطي في المنزل هو وزوجته كافيا لقلق الطاهي، لاعتقاده أن القبطي منصور وزوجته سيحلان محلة في خدمة نرفال، في الحقيقة لم يكن القبطي ولا زوجته يجيدان فن الطهي.
وعندما عاد نرفال من الرحلة طلب من منصور أن يخبر الجارية بان دورها قد حان للقيام بطهي الطعام لسيدها. غير أن الجارية اعتبرت أن هذا يعد إهانة شديدة لها، لأنها لم تأت لتصبح خادمة!
يقول نرفال إنه عجز عن وصف تعبير الكبرياء المجروحة، أو الكرامة المهدرة الذي بدا عليها، وقالت للمترجم: قل لسيدي، إنني سيدة لا خادمة، وأنني سأكتب للباشا إذا لم يضعني سيدي في المكان اللائق.
عندها صاح نرفال: الباشا، وما دخل الباشا بهذا الموضوع؟ لقد اشتريت الجارية لخدمتي، فإذا لم يكن لدي القدرة على اكتراء الخدم، فإنني لا أرى سببا يجعلها تحجم عن القيام بأعمال المنزل، كما تفعل النساء في كل البلاد.
وقال منصور: إنها تقول، إن لكل جارية الحق في التوجه إلى الباشا، وطلب إعادة بيعها، وتغيير سيدها، وأنها مسلمة، ولن تقبل أبدا أداء الأعمال المهينة.
وشعر نرفال بالندم، لأنه سيضطر للإنفاق عليها فيما تبقي له من الرحلة، ولن يستفيد منها، وقرر أن يعلمها اللغة الفرنسية ليوفر نفقات المترجم، وطلبت منه أن يعطيها ورقه وقلما؛ لأنها تريد أن تكتب بعض الطلبات التي تريدها من سيدها، لم تكن الجارية تجيد الكتابة، أخبرها نرفال عن طريق المترجم منصور أن تملي طلباتها.
كان البند الأول أنها تريد أن تلبس حبرة من التافتاه الأسود على شاكلة نساء القاهرة!
والبند الثاني أنها ترغب في الحصول على فستان من الحرير الأخضر. والثالث رغبتها في اقتناء حذاء برقبة. ووافق نرفال على طلباتها.
وذات يوم عاد نرفال إلى منزله ليجد إكليلا من البصل معلقا بعرض الباب، ومعه مجموعة أخرى من رءوس الثوم مرصوصة بانتظام فوق الموضع الذي تنام فيه، فما كان منه إلا أن انتزع تلك الزينات غير اللائقة وقذف بها في الفناء، وما كاد يفعل ذلك حتى صاحت الجارية ثائرة، وهرولت لالتقاط البصل وهي تبكي.
وعندما حضر منصور القبطي الذي يعلمها الفرنسية، أخبر نرفال أنه عندما ألقى البصل على الأرض، فقد أهان طقسا من الطقوس المصرية، من شأنه أن يمنع الأمراض والأوبئة عن المنزل وسكانه.
وسرعان ما تحققت مخاوف الجارية وأصيبت بمرض غامض حاول نرفال علاجه، ولكنها لم تستجب لعلاجه أو نصائحه الطبية، واستعانت الجارية سيدتين من البيت المجاور وشيخة مشهورة أحضرت موقدا وأعلت فيه نارا، وأحرقت على النار حجرا، كان هذا الدخان يضايق الشياطين، وقامت الجارية وانحنت على الدخان، مما سبب لها سعالا شديدا، والغريب أنها منذ تلك الواقعة بدأت في التحسن حتى شفيت تماما.
كانت أموال نرفال قد بدأت في التناقص، وكان يفكر في استكمال رحلته إلى لبنان وتركيا، وكان يريد أن يتخلص من الجارية، وقال لها: يا طفلتي الصغيرة، إن كنت تريدين البقاء في القاهرة أنت حرة.
وكان يتوقع منها الاعتراف بالجميل وتشكره. ولكنها بادرته بالقول: حرة! ماذا تريد أن أصبح، وإلى أين أذهب، من الأوفق أن تبيعني مرة ثانية إلى عبد الكريم.
لكن يا عزيزتي، الأوروبي لا يبيع النساء، وقبوله هذه النقود أمر شائن.
قالت الجارية وهي تبكي: وماذا أفعل إذن؟ هل أستطيع أنا كسب عيشي؟
وقال نرفال: تستطيعين الالتحاق بخدمة سيدة من دينك.
صاحت الجارية باستنكار: أنا أصبح خادمة؟ أبدا بعني مرة ثانية إلى عبد الكريم، فسيشتريني باشا من الباشوات، وأصبح عنده سيدة عظيمة.
وشعر نرفال أنها على حق، وقرر أنها ما دامت لا ترغب في البقاء في القاهرة، فينبغي أن يصحبها معه البلاد التي ينوي أن يذهب إليها.
وقالت له الجارية وهي تشير بإصبعيها: أنا وأنت.. سوا. سوا.
أسعده قرارها، وقرر أن يجعلها حرة بمجرد مغادرة الأراضي المصرية وذهب إلى ميناء بولاق وحجز زورقًا ليبحر إلى دمياط، ومنها يستقل الباخرة "سانتا بربارا" إلى لبنان وتركيا.. يتبع.