الولع الشامى بمصر
من المصطلحات الجغرافية المهمة فى تاريخنا العربى مصطلح «بلاد الشام»، والمقصود بها حاليًا: سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ومن الجدير بالذكر أن كلمة «الشام» تطلق على دمشق، التى كانت دائمًا عاصمة هذا الإقليم. ومن المنظور الجيو-سياسى هناك ارتباط تاريخى بين مصر وبلاد الشام على مر التاريخ، منذ العصور القديمة وحتى التاريخ المعاصر، وربما يشير إلى ذلك المقولة المهمة التى ذكرها جمال عبدالناصر فى كتابه «فلسفة الثورة» مع عودته من حرب فلسطين: «لقد اكتشفنا أن رفح ليست آخر الحدود المصرية».
وحتى على مستوى التاريخ الشعبى لم يكن ارتباط بلاد الشام بمصر أقل من نظيره على المستوى الرسمى، فمصر هى بوابة بلاد الشام إلى المغرب العربى، ولدينا تراث طويل من كتابات الرحالة الشوام الذين زاروا مصر عبر القرون المختلفة، ولعل أشهر هؤلاء العالِم الدمشقى «عبدالغنى النابلسى» ورحلته إلى مصر فى القرن السابع عشر، ولقائه مع علماء الأزهر.
وجدير بالذكر أن أحد أهم أروقة الأزهر هو «رواق الشوام»، المخصص لعلماء وطلاب بلاد الشام؛ حيث استقطب الأزهر العديد منهم، وكان الانتساب للأزهر من أهم سبل النجاح والترقى فى الوسط العلمى فى بلاد الشام.
ورصد المؤرخون ظاهرة مهمة فى علاقة بلاد الشام بمصر، أطلقوا عليها «الهجرة الشامية إلى مصر»، ولعل من أهم الدراسات فى هذا المجال كتاب الخورى بولس قرألى «السوريون فى مصر»، وكذلك كتاب مسعود ضاهر «الهجرة اللبنانية إلى مصر».
ومن المثير للانتباه انخراط معظم هؤلاء المهاجرين فى المجتمع المصرى، بل ودورهم المهم- لا سيما فى المجال الثقافى والفنى- ولعل ميدان الصحافة من أهم إسهامات الشوام فى مصر؛ إذ أسس الأخوان بشارة وسليم تقلا إحدى أهم الصحف المصرية على الإطلاق وهى جريدة الأهرام، كما أسس العلامة الكبير جرجى زيدان «دار الهلال»، إحدى أقدم وأهم المؤسسات الصحفية فى مصر والعالم العربى.
ولا نستطيع أن ننسى دور فاطمة اليوسف- أو روز اليوسف- سواء فى المسرح المصرى، أو حتى تأسيسها لمجلة روز اليوسف المثيرة، والسيدة روز اليوسف هى أيضًا أم أحد أهم رموز الصحافة والأدب فى مصر المعاصرة: الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس.
ومن الأمور الجديرة بالنظر أن مؤرخ الحركة القومية المصرية «عبدالرحمن الرافعى»، ترجع أصوله إلى بلاد الشام، وما زال الجزء الأكبر من أسرة الرافعى مقيمًا فى الشام، لا سيما فى مدينة طرابلس.
كما استقبلت مصر الكثير من اللاجئين السياسيين الشوام، من أشهرهم السياسى والمفكر «عبدالرحمن الشهبندر»، الذى تمصّرت أسرته تمامًا ولعبت دورًا مهمًا فى مجال التعليم والسياسة فى مصر، كذلك استقبلت مصر السياسى والمفكر الشهير «عبدالرحمن الكواكبى» الذى مات ودُفِن فى مصر.
كما لعب الشوام دورًا مهمًا فى تاريخ السينما المصرية، ولعل نموذج آسيا داغر ومارى كوينى خير دليل على ذلك، ومَن يستطيع أن ينسى أشهر حماة فى تاريخ السينما المصرية «مارى منيب»، والتى جاءت أسرتها إلى مصر، وهى طفلة صغيرة، وتصبح بحق صاحبة أشهر ضحكة، إلى درجة أن معظم المصريين لا يعرفون أنها من أصول لبنانية.
لن نتحدث عن «عائلات المصرى» فى بلاد الشام، ولا عن الكنائس والأديرة القبطية فى فلسطين، ولا عن وحدة مصر وسوريا «وحدة أحباب»، ولكن نكرر مرة أخرى مقولة «إن رفح ليست آخر الحدود المصرية».