الرقص تاريخيًا واجتماعيًا وثقافيًا
رغم أن الرقص قديم، وتوجد رسومات جدارية قديمة لراقصات، إلا أنه لا يوجد فى كتب التراث العربى ما يفيد ذلك، إلا نبذة ضئيلة جدًا عن الرقص فى «كتاب العين» للخليل بن أحمد الفراهيدى، وبيت شعر «ورقاصةٌ بالطبل والصنج، كاعبٌ * لها غنجُ مخناثٍ وتكريهُ فاتك» للشاعر ابن الرومى (٨٣٦ - ٨٩٦ م) ومفيش مصادر تانية بتتكلم عن الرقص رغم بحثى المستفيض.
خلينا نعرف الأول أن هناك فارقًا بين «الغوازى» و«العوالم»، وزى ما عرفهن «إدوارد لين» «١٨٠١-١٨٧٦» فى كتابه المهم «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» الصادر ١٨٣٦، بـ«هن النسوة المنتميات لقبيلة تحمل نفس الاسم، فالرجل منهم يسمى غازى، والمرأة غازية، وهن لا يتزوجن، ولهن قاموس لغوى خاص، ويتحركن ويسكن بشكل جماعى مع أفراد من أهلهن»، وكمان كلوت بك «١٧٩٣- ١٨٦٨» فى كتابه «لمحة عامة إلى مصر» صادر ١٨٤٠، «إن تاريخهن قد يرجع إلى ما قبل (البرامكة) بقليل»، أما الكلمة الثانية ومفردها «عالمة» فهى المرأة التى من المفترض أن تكون عالمة بفنون الرقص والموسيقى والغناء وإنشاء الشعر وإلقائه، وهى لا ترتبط بجماعة عرقية، وتسكن فى الشوارع بشكل عادى، والفارق بين الاثنتين أن «العالمة» فى منتصف القرن الـ١٩ وحتى آخره كانت ترقص أمام النساء فقط، بينما «الغازية» فترقص أمام الجميع، ويرتبط عملها قليلًا بالدعارة التى كانت مرخصة فى مصر آنذاك.
وخلينا نعرف إن محمد على، أصدر سنة ١٨٣٤ فرمانًا بمنع الدعارة ورقص البنات فى الأماكن العامة، «لأنهن يشوهن صورة مصر وسمعتها» وده بناء على ما رآه الطهطاوى- وهو كاتب محمد على ومنظّره الإصلاحى- بربط الرقص المصرى بـ«العهر» واللذة الحسية والشخلعة على حد قوله، وكانت العقوبة للى تخالف ده خمسين جلدة وحبس لمدة سنة، وأبعد محمد على باشا الغوازى إلى إسنا «فى صعيد مصر»، والغريب أن الصعيد اتملى بأماكن الرقص، ونشأت فى القاهرة ظاهرة كانت غريبة على المجتمع وهى رقص الرجالة، وده أدى للتراجع عن القرار فى عهد الخديو عباس، فرجعت الستات لممارسة الرقص فى القاهرة وبقية المدن من جديد.
وخلينا نعرف إن تاريخ استقطاب راقصات أجنبيات مش جديد ولكن بيرجع لسنة ١٨٩١، لما كان الخديو توفيق دائم السعى لإثبات أن مكانة مصر اللى اتعرضت للاحتلال البريطانى ١٨٨٢ لم يؤثر فيها الاستعمار، عشان كده كان حريص على انتهاز أى فرصة للمشاركة فى الفعاليات الدولية، وخاصة «المعرض العالمى للفنون والصناعات» واللى كان الفعالية الأهم فى الوقت ده، وكان بيقام مرة كل خمس سنين فى مدينة غربية، وكان فرصة للأمم عشان تظهر عظمتها وخاصة من خلال فنونها.
وخلينا نعرف إن نجاح الجناح المصرى فى معرض سنة «١٨٨٩» واللى كان مقام فى باريس، وخصوصًا الجزء اللى سُمّى «شوارع القاهرة»، دفع الخديو لأن يطلب من معاونيه الإعداد المبكر للدورة التالية اللى هتقام سنة «١٨٩٣» فى شيكاغو بمناسبة مرور ٤٠٠ عام على اكتشاف كولومبوس لأمريكا، وطلب الاهتمام بشكل خاص بالرقص الشرقى اللى أبهر زوار معرض باريس، وجعل العرض المصرى أكثر العروض شعبية فى المعرض.
بعد وفاة الخديو توفيق، وتولى ابنه عباس حلمى، استمرت الحكومة على حماستها، بل إن الخديو الشاب كان أكثر حماسة من أبيه الراحل.
وخلينا نعرف إن أول تسجيل مرئى «لراقصة بطن» جاية من الشرق، سجله «إديسون» سنة ١٨٩٦ للراقصة «فاطمة جميلى»، وكان أول عروضها فى معرض شيكاغو العالمى، وكانت فاطمة حلبية سورية، مولودة سنة ١٨٧١، جت مصر سنة ١٨٩٠، وفى القاهرة، اتعرفت بسورية تانية اسمها فريدة مظهر، اتعلموا الرقص، وسافرت فريدة مع جوزها اليونانى بعد ما أقنعها بالذهاب للعالم الجديد لتقديم شغفها فى مسرح، وفاطمة وفريدة ومعاهم راقصات تانيين وظفهم «جورج بنجالوس» بدعم من الحكومة المصرية، وهو مصرفى تركى من أصول يونانية، اللى عينه عباس حلمى مسئول عن جناح مصر فى معرض شيكاغو، همّ اللى قدموا الرقصات فى «شوارع القاهرة»، وكان العرض مبهر اتكتب عنه فى جرايد الوقت ده.
ومع بداية الاستشراق اللى تمت بلورته على ايدين علماء الحملة الفرنسية على مصر «١٧٩٩»، بدأ يظهر اهتمام الغرب بالرقص الشرقى واللى ماكنش اكتسب اسمه المعروف حاليًا، فنلاحظ أن الغربيين اكتسبوا فكرتهم الأساسية عن الشرق من مصدرين أساسيين. أولهما: الكتاب المقدس وقصة سالومى الراقصة، والثانى: هو قصص «ألف ليلة وليلة» براقصاتها وجواريها، ودى الفكرة اللى دعمتها بعد كده روايات وأساطير الرحالة وأعمال الفنانين والأدباء الغربيين.
ففى مقال بمجلة «فكر وفن» العدد «٤٣» يناير ١٩٨٦، بعنوان «اكتشاف أوروبا للرقص الشرقى» كاتبة المقال «إيناس نور» بتذكر إن الروائى «إميل زولا» أصدر رواية بعنوان «نانا» سنة ١٨٨٠، كتب فيها تعبير «رقص البطن»، وهو التعبير اللى اترجم فى أمريكا. وفى سنة ١٨٨٩ اترجم للألمانية بنفس المعنى، واتنقل للعربية «الرقص الشرقى».
ولأن «الرقص الشرقى» له علاقة بالفن التشكيلى، من حيث الصورة البصرية خاصة فيما يتعلق بالشكل والأزياء والاكسسوارات، بالإضافة للحركة، فإن ملابس الراقصة واللى بنسميها حاليًا «بدلة الرقص»، لها حكاية بدأت بيها وتم البناء عليها لتظهر بالشكل المتعارف عليه دلوقتى، وخلينا نعرف إن اختراع «بدلة الرقص» كان على يد مصمم الآرت نوفو ومصمم الرسوم التوضيحية «ليون صامويلوفيتش باكست» (١٠ مايو ١٨٦٦- ٢٨ ديسمبر ١٩٢٨)، وهو من أشهر الرسامين ومصممى الأزياء والديكور المسرحى الروس، وكان عضوًا فى فرقة باليه روس الشهيرة التى أسسها دياغليف، حيث عرفت أعمال باكست بالمحاولات الجريئة والألوان الزاهية.
اتولد ليون باكست فى غرودنو بروسيا البيضاء، واتخرج فى كلية الفنون الجميلة بسان بترسبورج وهاجر لفرنسا وفضل فيها بين عامى ١٨٩٣ و١٨٩٧، عاش ليون باكست فى باريس حيث درس فى أكاديمية جوليان، واشتهر فيها بالرسم الصحفى، وصمم أزياء ومناظر فى فرقة باليه روس لدياغليف. حيث صمم مشاهد باليهات «كليوباترا» سنة ١٩٠٩ و«شهرزاد» سنة ١٩١٠، مستوحيًا سحر الشرق اللى أولع بيه بعد زيارته لشمال إفريقيا، وكمان بعد دراسته لفترة فى مرسم رسام الاستشراق الشهير «جان ليون جيروم».
زى ما وضحت الباحثة شذى يحيى فى كتابها «الإمبريالية والهشك بشّك»، إن «باكست» ذكر أن تصميماته جاءت مستوحاة من عدة مصادر زى موتيفات العالم العربى وتركيا والقوقاز، وكمان منمنمات الفارسية واليونانية وفنون بيزنطة ومصر القديمة، وكل ما يخلق شكلًا غامضًا وخاصة بعد وضع غطاء شفاف على وجه الراقصة، وكانت رقصة «كليوباترا» بملابسها اللى صممها باكست بقت هى ملابس الراقصات فى الأفلام الأمريكية ذات المواضيع الشرقية زى فيلم «الشيخ» سنة ١٩٢١ وفيلم «لص بغداد» سنة ١٩٢٤.
بعد كده، قامت أفلام هوليوود بنقل النسخة الأوروبية والأمريكية «لبدلة الرقص الشرقى»، إلى كباريهات القاهرة اللى كانت مليانة بالأجانب اللى شكلوا أغلب الزباين اللى عايزين يشوفوا الراقصة اللى فى خيالهم على أرضها.
وهنا برزت «بديعة مصابنى» وغيرها من أصحاب الكباريهات واللى أدخلت تعديلات مستوحاة من الأزياء الهندية لإضفاء المزيد من الإثارة، تعديلات جديدة فى الشكل والأداء غيرت من الشكل المستحدث وبعدت تمامًا عن الشكل التراثى القديم.
وإذا كان ده الحال من زاوية الفن، فإن الحال كان مختلفًا من زاوية المثقفين والمفكرين فى الوقت ده، فنلاقى مثلًا المفكر الموسوعى سلامة موسى «١٨٨٧- ١٩٥٨»، اعتبر الرقص الشرقى كنزًا للمفاسد، أو إرضاء للسيد وإثارة شهوته، وسلامة موسى هو واحد من اللى إتأثروا بالنظرة الغربية المستشرقة للرقص الشرقى، وكان ناقدًا ومهاجمًا لفن الرقص فى مصر، لدرجة أنه سأل السؤال الاعتيادى اللى بيتم تداوله لغاية دلوقتى من التيارات المتشددة دينيًا: «هل ترضى لابنتك أو أختك أن تؤدى حركات الرقص المصرية؟». وكان سلامة موسى بيرى أن الرقص الشرقى هو رقص شهوانى فى الأساس ويثير الغرائز، ودليله على ذلك إن الراقصة الشرقية «اللى بتنتمى للشرق بس» لما بتؤدى حركاتها فإنها تنظر إلى أسفل، أو إلى الجزء الجنسى السفلى.
واستثنى من كل الراقصات المصريات «تحية كاريوكا»، فهو شايف من وجهة نظره، إن الست تحية لا تنظر إلى أسفل، وإنها لا تنظر إلى أحد من الأساس، أى أنها فى وجهة نظره ماكنتش بتستجدى الاشتهاء، وربما وقع سلامة موسى هنا فى براثن الرؤية الاستشراقية للرقص، وتبنى الصورة الذهنية اللى تم تصديرها خلال المستشرقين والسينما الغربية.
ونوصل هنا إلى «إدوارد سعيد» (١٩٣٥- ٢٠٠٣) اللى بيرى أن القيمة الكبرى للاستشراق بتكمن فى كونه دليلاً على السيطرة الأوروبية الأمريكية على الشرق، أكثر من كونه خطابًا صادقًا حول الشرق، والصورة دى تم بناؤها للراقصة الشرقية فى الثقافة الاستشراقية رويدًا رويدًا مع تطور علاقة الغرب بالشرق، وكان شايف إن الوصمة أو الصورة التى رآها الغرب للمرأة الشرقية لا تخرج عن كونها المرأة التى صورتها حكايات «ألف ليلة وليلة»، تلك المرأة القابعة فى حرملك القصر.
وأخيرًا، فى كتابه «هكذا تكلّم زرادشت»، يحكى نيتشه (١٨٤٤-١٩٠٠) أن زرادشت كان مارًا بين الأشجار مع رفيقه فى الغابة بحثًا عن ينبوع مياه، فإذا به صادف رهطًا من الصبايا يرقصن بعيدًا عن أعين الرقباء، وسرعان ما أدركت الفتيات القادم إليهن فتوقفن عن الرقص، ولكن زرادشت اقترب منهن قائلًا: «داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعجٍ للفرحين، وما هو بعدو الصبايا، فهل يسعنى أن أكون عدوًا، لما فيكنّ من بهاءٍ ورشاقة وخفة روح، وهل لى أن أكون عدوًا للرقص الذى ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات؟».