الولع المغربى بمصر
نتحدث كثيرًا هذه الأيام عن «القوى الناعمة» لمصر، وما هى فى حقيقة الأمر إلا الدور الثقافى والفنى المصرى فى محيطها العربى، ويشهد التاريخ على أهمية هذا الدور لمصر ذاتها، وتأثيره فى العالم العربى، إلى الحد الذى يدفعنا إلى الحديث عن حالة ثقافية يمكن أن نطلق عليها «الولع بمصر».. ولا أوافق من يقول بانتهاء الدور التاريخى للثقافة المصرية فى محيطها العربى، أو انتقال الريادة فى المنطقة إلى مراكز أخرى، ولذلك سأخصص عدة مقالات لدراسة «الولع بمصر» من خلال استعراض كتابات أهل المغرب والمشرق وصورة مصر لديهم.
وقررت البدء بالولع المغربى بمصر، ربما يدفعنى إلى ذلك كونى مؤرخًا، وإدراكى أهمية قافلة الحج المغربى التى كانت تعبر مصر فى طريقها إلى الحرمين الشريفين، وكيف ساعد ذلك على حدوث تبادل ثقافى واقتصادى وسكانى تحدث عنه الرحالة المغاربة إلى مصر، وتبع ذلك إقامة الأولياء المغاربة فى مصر، فمعظم أولياء الإسكندرية هم من أصول مغربية وأندلسية، كما كان «رواق المغاربة» من أهم أروقة العلم فى الأزهر الشريف.
وعندما نتحدث عن «الولع المغربى» بمصر، لا نتحدث عن استعلاء مصرى، بالعكس عن حبٍ متبادل واعتراف بالدور الثقافى والفنى لمصر.. ولا أدل على ذلك من صدور كتابين لاثنين من كبار الكتّاب المغاربة المعاصرين لدراسة هذه الظاهرة؛ الكتاب الأول للناقد والروائى والأستاذ الجامعى المشهور «شعيب حليفى»، وهو كتاب «عتبات الشوق: من مشاهدات الرحالة المغاربة فى الإسكندرية والقاهرة»، وفى هذا الكتاب يستعرض ولع الرحالة المغاربة بمصر منذ القرن الحادى عشر الميلادى وحتى القرن العشرين.. والكتاب الآخر فى هذا الشأن هو كتاب الناقد الأدبى والأستاذ الجامعى «محمد مشبال»، «الهوى المصرى فى خيال المغاربة»، وفيه يستعرض مذكرات- أو فى الحقيقة ذكريات- بعض أشهر كتّاب المغرب فى القرن العشرين عن ذكرياتهم فى مصر، والولع بها، مثل عبدالكريم غلاب عن فترة الأربعينيات، ومحمد برادة عن فترة الخمسينيات، ومحمد أنقار عن فترة الستينيات، ورشيد يحياوى عن فترة الثمانينيات.
ومنذ بداية قراءة الكتابين نُفاجأ بمدى أهمية «الولع بمصر» وأثره فى المغرب؛ إذ يرصد لنا شعيب حليفى الدور التاريخى للرحلة المغربية إلى مصر، وكيف كانت، فيقول: «النصوص التى يتضمنها هذا الكتاب هى مختارات تمثيلية، ومقتطفات بتصرف أحيانًا، شذرات فقط من مؤلفات زار مؤلفوها مصر فى حج ثقافى عبروا من خلاله إلى مكة والمدينة للحج الدينى».
كما يُفاجئنا محمد مشبال بمقولته المهمة والمثيرة: «لا يوجد بلد أو شعب أو ثقافة استطاعت أن تتغلغل فى وجدان المغربى وتصوغ وعيه مثلما استطاعت مصر والمصريون والثقافة المصرية»، وهى مقولة تنفى ما يُشاع فى المشرق عن الأثر الفرنسى المبالغ فيه على الثقافة المغربية، كما تؤكد التواصل الثقافى بين المغرب والمشرق عبر البوابة المصرية.
ولعل خير ختام للمقال ما كتبه الناقد المغربى الكبير محمد برادة عن إقامته فى مصر الخمسينيات:
«كان سفره (برادة) إلى القاهرة جزءًا من ذلك الحلم المتدثر بغلائل اللغة والسينما والنيل وثورة عبدالناصر وجامعة القاهرة وشخصيات الكُتّاب والمغنيين».