إلى وزير أوقاف مصر!
(1)
منذ عدة أسابيع استمعتُ للإعلامى د.محمد الباز فى مداخلته مع أحد كبار وزارة الأوقاف "المسئول عن المساجد أو النشاط الدينى"، وذلك بمناسبة توليه منصبه. وفى المداخلة فهمتُ أن قيادات وزارة الأوقاف تعتقد أنها قد تمكنت بالفعل وبشكلٍ عام من ضبط الخطاب الدينى لأئمة الوزارة، وذلك من خلال تحديد موضوع موحد لخطبة الجمعة بالتزامن مع متابعة قيادات كل منطقة لتنفيذ ذلك.
لا ينكر منصفٌ أن وزير الأوقاف الحالى د. مختار جمعة قد بذل جهدا كبيرا فى سبيل ذلك وأنه حقق نجاحا نسبيا إذا ما قارنا الوضع الحالى بما كان عليه قبل توليه منصبه، وقبل أن تتبنى الدولة، ممثلة فى قيادتها السياسية قضية تصويب الخطاب الدينى فى مصر.
لكن هذا التقدم النظرى النسبى هو أقل من الحد الأدنى لطموحات المصريين لبلادهم الآن وغدا؛ لأننا وبمقارنة هذا النجاح النظرى بالواقع، وبما يتم بثه فى كثيرٍ من مساجد مصر سنكتشف أن كثيرًا من وعاظ المساجد قد بدأوا يلتفون بالفعل حول قرار توحيد خطبة الجمعة.. فالعنوانُ واحدٌ لكن ما يقال تحت هذا العنوان هو مكمن الخطر القديم الجديد!
وحتى لا يكون حديثى مجرد اتهامات مرسلة فسوف أعرض فى مقالى هذا:
أولًا: بعض الأمثلة لهذا الالتفاف المؤسف والمسىء فى كثيرٍ من الأحيان للإسلام ولشخص الرسول الكريم ذاته عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: أتقدم لوزير الأوقاف باقتراحاتٍ محددة، ربما تسهم فى تحقيق رؤية الدولة المصرية ووضعها موضع التنفيذ الفعلى.
(2)
ففى بعض مساجد مدينتى الجنوبية تابعتُ بعض تلك الخطب، خاصة تلك التى واكبت بعض الأحداث الهامة- ووثقتُ بعضها بالتسجيل الصوتى- وهالنى ما يقال فوق المنبر تحت نفس العنوان للخطبة الموحدة وبما يتناقض مع معناها تمامًا.
ففى أحد المساجد خصص أحد الأئمة ثلاث خطب جمعة متتالية من 6 نوفمبر إلى 20 نوفمبر من العام الماضى لتناول قصة الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. وكانت ثلاث خطب دموية تمامًا أتى فيها بروايات- حين بحثتُ عن بعضها وجدتُ تصنيفها أنها موضوعة- تدعى قيام الرسول (ص) بإرسال فرق لقتل بعض الذين أساءوا إليه، وأكثر تلك الروايات فظاظة تلك التى ادعى فيها أن الرسول (ص) قد بارك قتل عصماء بنت مروان على يد أحد الأنصار ويدعى عُمير!
وفى تلك الخطب ادعى أن النبى(ص) وهو فى مكة قد تحمل الإيذاء؛ لأن المسلمين كانوا مستضعفين، لكنه بعد الهجرة وبعد أن قويت شوكة المسلمين بدأ فى تكليف بعض أصحابه بقتل فلان أو فلان بعبارات مثل (مَن لى بفلان ؟).
وفى آخر تلك الخطب وتعليقا منه على حادثة مقتل أحد المدرسين المسيحيين على يد طالب مصرى مسلم بسبب تطاول ذلك المدرس على النبى (ص) قال هذا الإمام على المنبر (إن هذا لا يجوز شرعًا؛ لأن المسلمين الآن ليسوا فى حالة قوة، وسيترتب على ذلك إثمٌ أكبر.. فالمسلمون الآن ليس لهم دولة وليس لهم خليفة!).
هذه الخطب الثلاث كانت تمثل إساءة بالغة لشخصية الرسول (ص) ولقد راجعتُ بعض تلك الروايات التى أوردها ذلك الإمام فوجدتها مغلفة بضعفٍ شديدٍ ولا تقوى على الصمود أمام آيات وصف النبى فى القرآن الكريم أو سيرته المتواترة، وبعض العلماء قد وضعوها تحت وصف "روايات موضوعة" أى أنها مفتراة على الرسول(ص).
فى نفس ذلك المسجد وفى الخطبة التى خصصتها الوزارة بعنوان تنظيم الأسرة بدأ الإمام خطبته بتعريف تنظيم الأسرة بأنه المخطط الغربى المفروض على المسلمين لتقليل عددهم ولإضعافهم!
بعد احتفال مصر السياحى فى مدينة الأقصر بإعادة افتتاح طريق الكباش الأثرى، والذى وافق يوم الخميس 25 نوفمبر الماضى فاجأنا أحد الأئمة بخطبة جمعة عنوانها الولاء والبراء والذى عرفه بأنه التبرؤ من كل الطواغيت.. ووصف المسلمين اليوم شعوبًا وحكامًا بأن عندهم أنيميا إيمان!
هو وإن لم يصرح تصريحا بسبب اختيار موضوع الخطبة، لكنها كانت خطبة تحض على الكراهية بشكلٍ تام- كراهية كل من وما هو غير مسلم- وتتناقض تماما مع التعريفات الشرعية لكلمة الولاء والبراء، والتى تتعلق بمواقف وأسباب نزول معينة، كانت كلها متزامنة مع تفاصيل عسكرية.
ثم أخيرا وفى الجمعة الماضية وتحت عنوان "إنسانية الحضارة الإسلامية" قام إمامٌ آخر بتقديم موضوع الخطبة بشكلٍ ينسفها تماما مدعيًا أن هذه الخطب من قبيل رحمة الإسلام وإنسانية الحضارة الإسلامية هى من قبيل تزلف الضعيف للقوى. ثم تحدث عن أن ذروة سنام الإسلام الجهاد، لكن الحديث عن الجهاد يزعج كثيرًا.. فبلاه منه!
هذه مجرد أمثلة استمعتُ إليها، ولو سألنا كل مصرى عما يسمع كل جمعة فى ربوع مصر لهالنا ما نحن فيه. لقد قرر كثيرٌ من أئمة وزارة الأوقاف أن يقولوا ما يشاءون تحت أى عنوان تضعه الوزارة.
(3)
لذلك فإننى أتقدم لوزير الأوقاف باقتراحى الأول الذى يتناغم مع فكرة رقمنة الحياة فى مصر العصرية ويتفق مع القوانين المصرية التى تلزم أى منشأة خاصة أو عامة باتباع بعض إجراءات المراقبة حفاظا على الأنفس والممتلكات. وإننى أعتقد أن عقول المصريين لا تقل أهمية عن أرواحهم وممتلكاتهم؛ لأن تلك العقول هى التى يمكنها أن تقود أمة للذرى أو أن تنهار بأمة إلى الهاوية!
اقتراحى هو أن تتم إضافة اشتراطٍ جديد فى جميع مساجد مصر، وهو تركيب كاميرا واحدة فى كل مسجد مواجهة للمنبر. وأن تقع المسئولية الإدراية عن صيانة وتشغيل تلك الكاميرا يوم الجمعة على كلٍ من إمام ومقيم شعائر المسجد، شأنها شأن مكبرات الصوت التى يهتمون بها أحيانا أكثر من اهتمامهم بما يقال على المنبر!
على أن يتزامن هذا مع البدء فى إقامة أرشيف الكترونى فى كل مديرية أوقاف على مستوى الجمهورية على أن يتصل كل إمام بذلك الأرشيف بمجرد جاهزيته ويُلزم بتقديم نسخة من خطبته إلكترونيا خلال 24 ساعة.
تكون مهمة قيادات كل منطقة هى مراجعة خطب كل أسبوع، والتأكد مما قيل على المنابر، على أن يتم استدعاء أى إمام خرج عن الخطاب الدينى المصرى المنشود، ويتم التقييم أسبوعيًا، ويتم توقيع العقوبات الإدراية اللازمة التى يمكن أن تصل للإبعاد عن المنبر. سيكون هذا منطقيًا وأسهل بكثير جدًا من فكرة المتابعة الشخصية مع كثرة عدد المساجد فى مصر. من المستحيل أن يتم تخصيص مفتش أوقاف لكل مسجد. لكن من اليسير جدا أن يتم التحكم عند بعد.
على أن يتصل أرشيف كل منطقة بأرشيف الوزارة الأم، شأنها شأن كل الإدارات الحكومية. وهذا يعنى أن يكون لدى الوزارة نسخ من جميع خطب الجمعة ويمكن لأى قيادة أن تستمع فى أى وقت لأى خطبة فى أى منطقة وتحقق فى أى شكوى بشكل منطقى وموضوعى.
إن تكلفة شراء كاميرا فى كل مسجد هى أقل بكثير مما يتم إنفاقه فى بناء المساجد أو تأثيثها أو استهلاكها من الكهرباء. ووجود هذه الآلية سوف تجعل كل إمام يدرك جيدًا أنه مسئول ومساءل عن كل كلمة يتفوه بها فوق المنبر. إنه من الغريب جدًا أن تكون هناك مسئولية جنائية على الأفراد على كلمةٍ قد يكتبها أحدهم على إحدى وسائل التواصل الاجتماعى بينما يطلق كل إمام العنان لنفسه ليقول ما يشاء فى قضايا مصرية مصيرية دون أدنى مسئولية!
(4)
أما الاقتراح الثانى فهو خاص بالمستوى التثقيفى للأئمة. حيث يصر وعاظ المساجد على إلقاء دروس تاريخية من فوق المنابر! ليست هذه هى المشكلة. لكن المشكلة أن مستواهم المعلوماتى فيما يخص التاريخ الإنسانى حتى التاريخ الإسلامى بصفة عامة والتاريخ المصرى بصفة خاصة مخجل جدًا.
فعلى وزارة الأوقاف أن تتحمل مسئوليتها الوطنية والمهنية تجاه ذلك. إما أن تنهى أئمتها عن الخوض فيه أو أنها– وأنا أرجح هذا الخيار– تقوم بإعادة تأهيلهم لذلك.
واقتراحى هو أن تكون هناك دورة إلزامية لكل إمام مدتها شهر. تكون الدورة مجمعة لعدد كبير كل مرة وليست محاضرات فردية، وذلك للتعامل مع العقل الجمعى للوعاظ . تكون تلك الدورة مخصصة بشكل رئيسى لدراسة التاريخ الإسلامى بشكل موضوعى بشرى حقيقى منفصل عن النظرة التعبدية لأبطاله. وكتفا بكتف مع ذلك دراسة التاريخ المصرى الذى يصرون على تجاهله تمامًا مع إصرارهم على تخصيص خطب الجمعة لتاريخ دول وحضارات أخرى!
على أن يقوم بالتدريس، خلال تلك الدورة، أساتذة تاريخ متخصصون من الجامعات المصرية ويكونوا من ذوى الأسماء المعروفة بثرائها المعلوماتى وشخصياتهم العلمية الموضوعية.
على أن يتزامن مع ذلك تدريس الأئمة مادةَ التربية الوطنية التى كنا ندرسها صغارا فى المدارس.. وأن يتم إزالة تلك المعضلة الكبرى فى عقول الكثير منهم. وأقصد بذلك فض الاشتباك بين قدسية الديانة وقدسية الوطن وترابه وحدوده والاعتراف بشهدائه والبدء فى ذكر سيرهم فوق المنابر!